الفن والثقافة والتراث هوية الشعوب ... فلنحافظ على تراثنا الفلكلوري الكردي ..... لمتابعة آغاني الملاحم الكردية والتراثية اضغط هنا  ::::   أحبتي زوار موقع تيريج عفرين ..... قريباً سيعود الموقع إلى نشاطه السابق . ::::   آخر لقطات بعدسة تيريج عفرين .... شاهد الصور  ::::    شاهد الآن كليب تيريجن عفرين 4.... تيريج روج آفا - الجزء الرابع  ::::    الوديان في منطقة عفرين ... اقرأ المزيد  ::::    سياحة من تراثنا الشعبي ..... المضافات في منطقة عفرين ودورها الاجتماعي  ::::   أهلا بكم في موقع تيريج عفرين ....... Hûn bi xêr hatin :::: 
EN
Fri - 29 / Mar / 2024 - 17:06 pm
 
 
http://www.tirejafrin.com/site/m-kamel.htm
الزاوية الأدبية »
جدتي كانت هناك ـ عبدو محمد ( رشو )

\"\"أعرف أن جدتي ماتت منذ زمن بعيد، أذكر ذلك تماماً فقد كنت فتى يافعاً، وأذكر أني بكيتها بحرقة شديدة، وأني ألقيت بنفسي فوق قبرها لا أريد مبارحته، وأذكر قول أبي لمن أراد أن ينهضني: دعوه يبكيها فقد كانت تحبه كثيراً.‏

أذكر كل ذلك تماماً رغم مرور السنين الكثيرة، ورغم مرور السنين الكثيرة لا أزال أحن إلى صدر جدتي وصوتها العذب، ولا أزال أحن إلى لمسة يدها وهي تمسح على رأسي، وإلى ما كنت أشعر به من دفء المحبة وهو يتسرب إلى أعمق أعماقي حين كانت تفعل ذلك وهي تهدهدني بكلام ما كنت أفهم أو أعي أكثره.‏
 
أذكر كل ذلك تماماً وأحن إليه رغم تراكم غبار السنين فوق صفحات تلك الذكريات، سنون كثيرة عجاف مرت فأثقلت كواهلي وأرهقت لحمي وعظمي وإن بقي في الفؤاد شيء من عافية وبقايا من دفء، وأعلم كما قلت أن جدتي ماتت وشبعت موتاً كما يقول عامة الناس حين يريدون بعد زمن الموت، ولكني ورغم علمي هذا وجدتها بالأمس حية ترزق، تماماً كما كنت أعرفها، وجدتها هناك في حافلة نقل تقل نازحين من مدينة "صور" اللبنانية، وجدتها جالسة بينهم رزينة كعهدي بها، حزينة تقول لسائل يسألها: إلى أين أنت ذاهبة يا سيدتي؟ وسمعتها تجيب بصوتها الذي ما نسيته: لا أدري! يقولون إلى "صيدا" ولا أعرف مصيري! فليس لي من ألجأ إليه هناك.‏

كنت جالساً في بيتي في "عفرين" في شمال سورية، أتابع مجريات الأحداث الدامية في لبنان بعين دامعة وقلب متألم لما تلقيه "إسرائيل" على جنوبه من قنابل، نسيت الأحداث تلك، حين رأيت وجه جدتي في تلك الحافلة الذاهبة من صور إلى صيدا، تنقل فارين من القصف المدمر، كانت جدتي بشحمها ولحمها ووجهها الجميل الرزين، ولكنها كانت حزينة تائهة ضائعة خائفة، وهذا ما جعلني أقفز من مقعدي وأنا أصيح: "إليَّ إليَّ يا جدتي، إليَّ إليَّ يا جدتي... وأسرعت أرتدي ثياب الخروج بين دهشة زوجي وأولادي وعيونهم الزائغة المستغربة.‏

حين هممت بالخروج وأنا أصيح: أنا قادم إليك يا جدّتي، التفتت زوجي إلى أكبر أبنائها وخاطبته: الحق أباك، فقد يجنّ، وأردفت وهي تمسح دمعتين من مقلتيها: وهل يبقي هذا الذي نراه ونسمعه عقلاً لذي عقل؟‏

ما كدت أخطو خطوتين خارج المنزل باتجاه موقف السيارات قاصداً "حلب"، حتى كان ولدي يسير بجانبي وهو يسألني ليخفّف عني: أبي هل كانت جدّتك، جدّتي جميلة مثل التي رأيناها على شاشة التلفاز؟..‏

قلت: وكانت رزينة محترمة مثلها تماماً، ثم تداركت أصيح به معنفاً: بل كانت هي بعينها، ألا تصدق ذلك يا ولد؟‏

قال: بل أصدقه تماماً، فأنت لم تكذب علينا أو على غيرنا يوماً، ولكن الناس لن يصدقوك، فماذا ستقول لهم؟ هل ستقول أن جدتي بعثت حية؟؟؟‏

قلت متابعاً سيري وغضبي: لا يهمني ما سيقوله الناس. أعلم أني رأيت جدتي في حافلة ذاهبة من صور إلى صيدا، وأنها كانت تائهة حزينة خائفة، وسأذهب للبحث عنها هناك، وفي كل مكان حتى أراها، فهل يعقل أن يترك إنسان جدته حزينة تائهة خائفة تدور بين المنافي؟‏

لم ألتفت إلى دهشة ولدي ولا لاتساع عينيه وزوغانهما وهو يتبعني ويصعد خلفي إلى أول حافلة قاصدة حلب، وفي حلب قصدت ساحة سعد الله الجابري وصعدت فوق المنصة التي أقيمت تحت أكبر كرة معدنية في الشرق الأوسط، ورحت أصيح بالناس المارين ذهاباً وإياباً من أمامها: يا ناس، يا عالم، إذا رأيتم بين الهاربين من القتل من جنوب لبنان عجوزاً رزينة حزينة، شاردة تائهة خائفة، فدلوها عليَّ، هي جدتي وأنا ابنها العاق، فعاقَّ من يترك جدته حين تحتاج إليه، وهذا هو عنواني.‏

ونزلت من فوق المنصة، ورحت أوزع على الحاضرين والمارين بطاقات صغيرة تحمل اسمي وعنواني ودموعي، نزلت من فوق المنصة التي لم أفهم سبباً لوجودها هناك.‏

تابعت توزيع البطاقات غير مبالٍ بهمسات الناس ولا بنظراتهم المستغربة، ولا بأقوالهم التي راحت تتعالى:‏

-لقد جنَّ الرجل، لم يتحمل عقله ما يراه ويسمعه!‏

-بسلامة عقله، كان من أعقل الناس!‏

-إيه! ا لله يثبت علينا العقل، عجوز يبحث عن جدته.‏

-ربما كانت جدته بعمر نوح! ها،ها،ها،‏

أردف المتكلم الأخير كلامه بضحكة مجلجلة، فالتفت إليهم صائحاً: ألا تخجلون؟ كيف تنعتون رجلاً يبحث عن جدته بالجنون؟ أعليَّ أن أتركها هناك خائفة جائعة حتى أكون عاقلاً بنظركم.‏

أمسك ولدي بيدي وأخذني بعيداً وهو يقول: دعك منهم يا والدي، وهيا لنبحث عن جدتنا في المنافي، فلعلنا نجدها في مكان ما.‏

قلت مؤكداً: وسنذهب حتى إلى صيدا إذا لزم الأمر.‏

قال: وإلى أيّ مكان تريده.‏

قلت فرحاً: الآن أنت ولدي وأنا أبوك، فهيا بنا.‏

وغادرنا ساحة سعد الله الجابري التي بحلب، متجهين إلى موقف السيارات التي تنقل الناس إلى حيث يريدون، تاركين الناس في تلك الساحة يتطلعون ببلاهة، إلى الكرة المعدنية الكبيرة التي نصبت هناك، بمناسبة اختيار حلب عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 2006م، متسائلين ببلاهة أشدّ: عن العلاقة بين تلك الكرة والثقافة الإسلامية! وحين كنا نبتعد سمعت قائلهم ساخراً: هذه الكرة نصبت هنا ليأتي المجانين من أمثال صاحبنا الباحث عن جدته، ليخاطب الناس من فوق منصتها.‏

وصوت قائل آخر يرد عليه: إذا كان الأمر كذلك، فعلى المسؤولين أن يكثروا منها.‏

عبدو محمد ( رشو ) رئيس اتحاد كتاب العرب بحلب - تيريج عفرين 13/9/2006


هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟

إسمك :
المدينة :
عنوان التعليق :
التعليق :


 
 |    مشاهدة  ( 1 )   | 
http://www.tirejafrin.com/index.php?page=category&category_id=204&lang=ar&lang=ar