دراسات سوسيولوجية في الشخصية الكردية
( الحلقة الثالثة)
أسلاف الكرد وفجر الحضارة في غربي آسيا
من هم الكرد؟ كان من المفترض ألاّ نطرح هذا السؤال، ونعدّ الإجابة عنها تحصيل حاصل، وأمراً مفروغاً منه، لكن ثمة خمسة أسباب حملتنا على طرحه:
- السبب الأول أن البحث في شخصية شعبٍ ما يقتضي بالضرورة معرفة جذوره وهويته وموقعه في التاريخ: من هو إثنياً؟ ومن هم أسلافه الأوائل في عصور ما قبل التاريخ؟ وأين كانت جغرافيا التكوين التي نشأوا فيها؟ وما مستوى نقائهم العرقي؟ وما مدى مساهماتهم في إنتاج بواكير الحضارة؟ وما طبيعة ثقافتهم في عصور التكوين؟ وما التحولات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي طرأت على مسيرتهم عبر القرون؟
- والسبب الثاني أن بعض الكتّاب القدماء، من روّاد الثقافة العربية الإسلامية، تناولوا أصل الكرد على نحو قاصر تارة، ومشوَّش تارة أخرى، وأدخله آخرون في دائرة التلفيقات، وزجّ به فريق في دائرة التخريفات، وإذا جاز لنا أن نُرجع التقصير إلى قلة المعلومات، ونفسّر التشوّش بأنه ناجم عن عدم وضوح الرؤية، فلا نجد تفسيراً للتلفيق والتخريف سوى أنهما صادران عن الرغبة في الانتقاص من أصالة الكرد وتبشيع صورتهم.
- والسبب الثالث أن قسماً كبيراً من أبناء شعوب غربي آسيا، ومن شعوب العالم، كان يجهل الكرد بشكل شبه تام تقريباً، قبل حوالي عقدين من الزمان، ولم يكتشفوا الكرد فجأة إلا بتأثير الأحداث المأسوية الكبرى التي حلّت بالكرد، وخاصة في الفترة بين (1987 – 1999).
- والسبب الرابع أن القسم القليل الباقي من أبناء شعوب غربي آسيا، ومن شعوب العالم، لم يكن يعرف- وما زال لا يعرف- عن الكرد سوى معلومات ضئيلة ومنقوصة ومشوَّشة في أغلبها؛ ومنها على سبيل المثال: أن الكرد شعب بلا جذور، وأنهم شراذم مبعثرة في مناطق غرب آسيا، وجماعات من الرحّل الهمج، يُذكّرون المرء بحال الهنود الحمر قبل أربعة قرون.
- والسبب الخامس أن فريقاً من سلالات (ثقافة افتراس الآخر) في غربي آسيا، ومن المتخصصين في تغييب وجود الكرد عن الأبصار والأذهان، والناشطين في إطار مشروع (أَبْلَسة الكرد)، فاجأهم أن ينقلب السحر على الساحر، ويصبح الكرد حديث وسائل الإعلام، فهبّوا سراعاً إلى شحذ ألسنتهم وأقلامهم، للتشكيك في وجود الكرد تارة، والطعن في هويتهم تارة أخرى.
إن هذه الأسباب هي التي دفعتنا إلى طرح السؤال: من هم الكرد؟ ولضمان أكبر قدر من الموضوعية والإيجاز نوزّع الإجابة على أربعة محاور:
1 - أسلاف الكرد في عهود فجر الحضارة.
2 - أسلاف الكرد الزاغروسيون القدماء.
3 - أسلاف الكرد الآريون (الهندو أوربيون).
4 - الكرد من العهد الأخميني حتى العصر الحديث.
أسلاف الكرد في عهود فجر الحضارة
يقطن الكرد قلب منطقة غربي آسيا، وتمتد مواطن سكناهم- بشكل متجاور ومتواصل في الغالب- من بحيرة أورميا شرقاً إلى كردداغ (عفرين) غرباً، ومن جبال أرارات (آگري) شمالاً إلى لورستان ضمناً جنوباً، وتشكل أضخم السلاسل الجبلية في غربي آسيا (زاغروس، أرارات، طوروس) العمود الفقري لموطن الكرد، ويقتضي المنطق أن يتمّ البحث في أسلاف الكرد الأقدمين على ضوء هذه المعطيات الجغرافية.
وإلى الآن يبدو، من خلال المكتشفات الأثرية والدراسات التاريخية، أن سلسلة جبال زاغروس- وخاصة سفوحها الغربية- كانت الحاضنة الأولى للحضارة في غربي آسيا، ونستعرض فيما يلي بعض ما ذكره الباحثون في هذا المجال.
أولاً ـ عصور ما قبل التاريخ:
أ – العصر الحجري القديم: يسمّى (الباليوليثي)Paleolithic ، وهو يبدأ منذ أقدم ظهور للإنسان، وينتهي بحدود الألف العاشر قبل الميلاد، وقد عاش إنسان العصر الحجري في كردستان، وظهرت آثاره في عدد كبير من المواقع، منها موقع (بَرده بَلْكَه)، الواقع على بعد ميلين شمال شرقي چمچمال على الطريق المؤدي إلى السليمانية، وآثار كهف (زَرْزي) وكهف (هَزار ميرد) جنوبي السليمانية، وفي كهف (شانَدَر/شانيدار) بجبال بِرادُوسْت، وهو يطلّ على وادي نهر الزاب الأعلى، وفي (گلي سُور) قرب بيستون (بهستون) وكَرْمنشاه، وفي جبال بَخْتياري، وفي جبل نَمْرود داغ غربي بحرة وان، وفي كهف (دُو دَري) Du derî في جبل لَيْلُون المطل على الجهة الشرقية من حوض نهر عِفْرين، وقد سكن الإنسان الباليوليثي الكهوف في المنطقة الجبلية، وكان يعيش حياة بدائية، ويعتمد على صيد الحيوانات، وجمع النباتات، واستخدم الحجارة لصنع آلاته وأدواته البسيطة. (جمال رشيد: ظهور الكورد في التاريخ، ج 1، ص 398- 402. فاضل عبد الواحد، وعامر سليمان: عادات وتقاليد الشعوب القديمة، ص 10).
ب – العصر الحجري الوسيط: يسمّى (الميزوليثي) Mesolithic، وهو يبدأ من حدود الألف العاشر قبل الميلاد، وفيه بدأ الإنسان العيش في المنطقة المتموجة، وشرع في تدجين الحيوانات، واهتدى في أواخر هذا العصر إلى نوع من الزراعة البسيطة، وقد عُثر على آثار هذا العصر في أماكن متعددة من كردستان، منها الموقع المعروف بـ (زاوي جَمى شانَدَر) قرب كهف شانَدَر على الزاب الأعلى، وتمّ الكشف في هذا الموقع عن أقدم بقايا البيوت التي شيّدها الإنسان، وتتألف بقايا المساكن من جدران من الطين غير منتظمة، شُيّدت على أسس من حجارة الحصى الكبيرة، ووُجدت فيه معالم أكواخ مستديرة. (جمال رشيد: ظهور الكورد في التاريخ، ج 1، ص 408، 410. فاضل عبد الواحد، وعامر سليمان: عادات وتقاليد الشعوب القديمة، ص 11).
ج – العصر الحجري الحديث: يسمّى (النيوليثي) Neolithic، وهو يبدأ في حدود الألف التاسع قبل الميلاد، وفيه احترف الإنسان الزراعة، وطوّر تدجين الحيوانات، وتحوّل من طور (جمع القوت) إلى طور (إنتاج القوت)، وأدّى ذلك إلى الاستقرار، وظهور المجتمع القروي، وكان ذلك التحول ثورة اقتصادية، أرست القواعد الراسخة للحضارة، وقد عُثر على آثار هذا العصر في جنوبي كردستان في موقع جَرْمو القريب من كركوك، وفي الطبقات السفلى من موقع شَمْشارة، وفي موقع حسونة القريب من الموصل. وعلى العموم فإن مرتفعات زاغروس، وكردستان عامة، كانت أقدم مهد لوجود الأصول البرية للحيوانات والنباتات التي دجّنها الإنسان في آسيا، وأقدم نقطة لاستقرار البشر في مساكن مستقرة. (جمال رشيد: ظهور الكورد في التاريخ، ج 1، ص 415، 416. فاضل عبد الواحد، وعامر سليمان: عادات وتقاليد الشعوب القديمة، ص 11- 12).
د - العصر الحجري المعدني: شغل هذا العصر الفترة بين (5600 ق.م) وحتى استخدام الكتابة في أواسط الألف الرابع قبل الميلاد تقريباً، واستخدم الإنسان فيه المعادن، إلى جانب الحجارة، لصنع الآلات المنزلية والزراعية. وتظهر آثار المرحلة الأولى من هذا العصر في عدد من المواقع بجنوبي كردستان، وهي تدل على تقدم الإنتاج الزراعي وزيادته عن حاجة المزارع، وظهور أولى بوادر التخصص في العمل؛ إذ اهتم بعض الناس بالزراعة، وعمل آخرون في صناعة الآلات والأدوات المنزلية والزراعية، ونشأت أولى المعاملات التجارية عن طريق المقايضة. (فاضل عبد الواحد، وعامر سليمان: عادات وتقاليد الشعوب القديمة، ص 12 – 13).
ثانياً ـ حضارة موقع تاوره- زاغروس: أصبحت منطقة تاوره- زاغروس المركز الأساسي لتدجين الماعز والأغنام؛ إذ ظهر الرعي في الألف الثامن قبل الميلاد، وانحصرت عملية تدجين الماعز في جنوب جبال زغروس، بينما كان تدجين الأغنام يجري في شمالها، وفي جنوب الأناضول وربما أيضاً في شرقه كان الناس، على تخوم الألفين السابع والسادس قبل الميلاد، قد دجّنوا التيوس الجبلية، ثم انتقلوا إلى تربية الأبقار. (بونغارد – ليفين: الجديد حول الشرق القديم، ص 62).
ثالثاً ـ حضارة موقع تپه جيان :Tepe Giyanظهرت حضارة تبه جيان في منطقة زاغروس، ولم تسيطر هذه الحضارة على البوابات الفارسية والطرق العامة في بلاد ما بين الرافدين حتى كَرْمَنْشاه وهَمَذان فقط، وإنما تحكّمت أيضاً في المنطقة الواقعة من شمال بلاد الرافدين حتى خوزستان. (جيمس ميلارت: أقدم الحضارات في الشرق الأدنى، ص 93).
رابعاً ـ حضارة موقع جَرمو Jarmo: " تقع جَرْمو(جارمو) قرب كركوك، على طرف واد عميق في سهل چَمْچَمال بجنوبي كردستان، وهي مثال جيد للمستوطنات الفردية المبكّرة، وقد كُشف فيها عن اثنتي عشرة طبقة أثرية، وفيها بيوت بسيطة مشيّدة بكتل من الطين، وبأسس من الحجارة غير المهندمة، ولكل بيت عدة غرف مستطيلة، والأرجح أنه كان في كل بقعة من عشرين إلى خمسة وعشرين بيتاً، مما يجعل تقدير سكان القرية حوالي 150 شخصاً، وتتميز الطبقات الخمس العلوية بوجود أنواع متطورة من الفخار، وفيها أوانٍ من الحجارة، وسلال مبطَّنة بالقار والجلد، والبيوت مصنوعة من الغُضار، واعتمد اقتصاد جرمو على القمح والشعير والعدس والجُلْبان الأخضر، وكانوا يأكلون الفستق والبلوط، وقاموا بتدجين الماعز والكلب. (جين بوترو وآخرون: الشرق الأدنى الحضارات المبكرة، ص 34. جيمس ميلارت: أقدم الحضارات في الشرق الأدنى، ص 61 – 62).
وذكر جيمس ميلارت أن الصناعة الحجرية في جَرْمو كانت متطورة، فبالإضافة إلى الفؤوس ذات النهايات الحادة، والجواريش، والمطاحن، والهواوين، والمدقّات، والكرات الحجرية، ومحاور الأبواب، وُجدت صفائح حجرية لطحن المُغْرة الحمراء، وملاعق، وأقراص مثقوبة، وعدد من الخواتم والأساور المصنوعة من الخام والمرمر، وكثير منها يحمل تزيينات مثلَّمة أو منقوشة. (جيمس ميلارت: أقدم الحضارات في الشرق الأدنى، ص 62).
خامساً ـ حضارة حَلَف Halaf:
نُسبت هذه الحضارة إلى تل حَلَف الذي يقع في أعالي نهر الخابور، واسمه القديم (گوزانا) Guzana، وهو على مسافة (140) ميلاً شمال غربي نينوى (قرب الحدود السورية التركية). وذكر جيمس ميلارت أن هذه الحضارة انتشرت على شكل قوس من نهر الفرات إلى الزاب الأكبر (الأعلى)، ومن المحتمل أن تكون جبال طوروس حدودها الشمالية، مع جيوب منتشرة في الهضبة الأناضولية إلى الشمال من هذه الجبال. وتقع الغالبية العظمى من المناطق المشار إليها- إن لم يكن جميعها- ضمن مواطن الكرد حالياً، وضمن الجغرافيا التي سكنها أسلاف الكرد كما سنرى لاحقاً. وذكر جيمس ميلارت أن سكان حضارة حَلَف كانوا يعملون في الزراعة؛ بدليل وجود المناجل ذات النِّصال المصنوعة من الصَّوّان بالمئات في هذا الموقع، وأنهم زرعوا الشعير والقمح، كما أنتجوا الخيوط الكَتّانية، واستخرجوا زيت بذر الكَتّان، وقاموا بتدجين المواشي كالماعز والغنم. وقد اندثرت حضارة حلف في الفترة بين (4400 - 4300 ق. م). (عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 27. جيمس ميلارت: أقدم الحضارات في الشرق الأدنى، ص 157، 161، 163).
وإضافة إلى ما سبق فقد جاء بشأن قصة الطوفان في الملاحم السومرية أن سفينة (زيو سودرا) Ziusudra في الرواية السومرية (نوح السومري، ويسمّى أوتنابيشتم) Utnapishtim في الرواية السامية) استقرت على جبل (نيسير) Nisir، وهو جبل پيره مگرون Pire megrun في جنوبي كردستان، وهناك اختبر انحسار المياه بأن أرسل حمامة فعادت، ثم أرسل سنونو فعاد أيضاً، ثم أطلق غراباً، فرأى الغراب أن المياه قد انحسرت فحطّ وأكل ولم يعد. (جفري بارندر: المعتقدات الدينية لدى الشعوب، ص . فاضل عبد الواحد علي: من سومر إلى التوراة، ص 210 – 211).
وسبق أن ذكرنا في الحلقة الأولى من هذه السلسلة ما جاء في (العهد القديم) وفي (القرآن)، بشأن الحياة البشرية بعد الطوفان، فقد جاء في (العهد القديم) أن سفينة النبي نوح رست على إحدى قمم جبل أرارات (آگري)، وجاء في (القرآن) أنها رست على قمة جبل جُودي، وبالمقارنة بين موقع كل من جبل نيسير وجبل أرارات وجبل جودي من جهة، ومنطقة حضارة حلف من جهة أخرى، يتضح أن جبل نيسير يقع على الجزء الشرقي من منطقة حضارة حلف، ويقع جبل أرارات يقع في على حافتها الشمالية، في حين يقع جبل جُودي في صميم تلك المنطقة.
إن الأدلة السابقة- وقد حاولنا عرضها بإيجاز- تؤكد حقيقتين اثنتين:
1- إن بلاد الكرد، ومنذ العصر الحجري القديم، لم تكن أرضاً خالية قطّ، وإنما كانت مسكونة بجماعات من البشر، أما ما هي الهوّية السلالية لتلك الجماعات؟ ومنذ متى استقرّت هناك؟ وهل وُجدت أصلاً في تلك المنطقة، أم قدمت إليها من مناطق أخرى؟ فلم نجد في المصادر التي اطّلعنا عليها إجابات عن هذه الأسئلة، لأن العصور التي ظهرت فيها تلك الجماعات هي سابقة على عصر هجرة السلالات الآرية والسامية وانتشارها، كما أنها سابقة على عصر ظهور الكتابة؛ وقد أطلق عليهم بعض الباحثين اسم (الجنس القوقازي) تجاوزاً، والصواب أن نطلق عليهم اسم سكان زاغروس القدماء. (أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم، ص 195).
2- إن ظهور بوادر الحضارة في موطن أسلاف الكرد، منذ العصر الحجري القديم، دليل على أن الشروط المُناخية والبيئية بشكل عام في تلك المنطقة كانت ملائمة لذلك، وأن تلك الشروط استمرّت قائمة في العهود التالية، وإلا لما استمر تطور الحياة البشرية بعد العصر الحجري الأول، وكان من الطبيعي- والحال هذه- أن تصبح تلك المنطقة خزّاناً يفيض بمكوّناته البشرية والحضارية على المناطق المجاورة، شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً، وكان السومريون من أوائل روّاد تلك المكوّنات.
أسلاف الكرد الزاغروسيون القدماء:
1 – السومريون Sumerian: ميزوپوتاميا Mesopotamia مصطلح جغرافي، أطلقه اليونان على المنطقة الواقعة بين نهري (دجلة والفرات)، وجاء في (العهد القديم) بصيغة (أرام نهرايم)، وتُرجم بالعربية إلى (أرام النهرين)، وكان يعني المنطقة الواقعة بين نهر الفرات ونهر البَليخ أو الخابور، وحينما تُرجم (العهد القديم) إلى الإغريقية تُرجم هذا المصطلح بصيغة (ميزوپوتاميا)، وكان يدل على المنطقة الواقعة بين دجلة والفرات شمالي مدينة بغداد، ثم اتسع مدلوله، وصار يدل على ما بين دجلة والفرات من الشمال إلى الجنوب، وكانت ميسوپوتاميا تسمّى بالفارسية (ميان روزان)؛ أي ما بين النهرين. أما في المصادر العربية الإسلامية فأُطلق على قسمها الشمالي (من بغداد فشمالاً) اسم (الجزيرة). (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح الرابع والعشرون، الآية 10. عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 212. سامي سعيد الأحمد: السومريون وتراثهم الحضاري، ص 5. جين بوترو وآخرون: الشرق الأدنى الحضارات المبكرة، ص 20).
ويفيد الدارسون أن منطقة جنوبي ميزوپوتاميا السهلية لم تكن صالحة للحياة البشرية؛ في الفترة الممتدة بين العصر الحجري الأول وعصر حضارة حَلَف، لكن مع مرور القرون، وخلال الألف الخامس قبل الميلاد، تحسّنت فيها الشروط المناخية والبيئية، وتحوّلت ميزوپوتاميا إلى مركز جذب استيطاني، ونشبت فيها سلسلة من أطول الصراعات بين (الجبل) و(الصحراء) للسيطرة على (السهل)؛ أقصد الصراع بين أقوام جبال زاغروس وأقوام شبه الجزيرة العربية، ولك أن تسمّيها (الصراع بين السلالات الآرية والسلالات السامية). وإذا وضعنا المجاملات جانباً، وسمّينا الأشياء بأسمائها، فلنا أن نقول: ما انتهت بعدُ تلك الصراعات، وما زالت بعض تجلّياتها قائمة في العراق حالياً)؛ بين الآريين (الكرد والفرس) من جهة والساميين (العرب) من جهة أخرى.
ويسمّى أول عصر تاريخي بدأ في جنوبي ميزوپوتاميا باسم (عصر العُبَيد)، ويقع هذا العصر في الفترة (4500 – 4000 ق.م)، وكما سُمّيت حضارة حَلَف بهذا الاسم نسبة إلى مكان هو (تل حَلَف)، فكذلك سُمّي قوم عصر العُبيد بهذا الاسم نسبة إلى مكان اسمه (العُبَيْد) في جنوبي العراق حالياً، وبما أن الكتابة لم تكن معروفة آنذاك لم يستطع المختصون تحديد هُويّة تلك الجماعة البشرية بشكل دقيق، وكل ما أفادوه في هذا المجال هو أن الجماجم التي عُثر عليها في (العُبيد) كلها من جنس البحر المتوسط (الرؤوس الطويلة). (فاضل عبد الواحد علي: من سومر إلى التوراة، ص 23. سامي سعيد الأحمد: السومريون وتراثهم الحضاري، ص 42. عامر سليمان، وأحمد مالك الفِتْيان: محاضرات في التاريخ القديم، ص 71).
وبعد (عصر العُبيد) مباشرة بدأ العصر السومري في جنوبي ميزوپوتاميا، وكان للسومريين الفضل في اختراع الكتابة، واستخدامها للتدوين، في حدود (3000 ق.م)، ولذلك تمكّن الباحثون من معرفة الكثير عن الحضارة السومرية. وكُتب اسم بلاد سومر بالعلامات المسمارية (كي ان جي) Ki -en –gi، أي (البلاد السيدة)، وكُتب المصطلح باللغة الأكّادية على هيئة (مات شوميرم) و(شومرد)؛ أي (بلاد السومريين)، وسمّتها التوراة (أرض شِنْعار). (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح العاشر، الآية 10. فاضل عبد الواحد علي: من سومر إلى التوراة، ص 97. عامر سليمان، وأحمد مالك الفِتْيان: محاضرات في التاريخ القديم، ص 25، هامش 1. عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 24).
وقد تنوّعت الآراء في تحديد أصل الشعب السومري، وفي تحديد هويّة اللغة السومرية، يقول الدكتور فاضل عبد الواحد:
" لقد أصبح أصل السومريين مسألة عويصة حتى إن المعنيّين بحضارة العراق القديم صاروا يسمّونها بـ (المشكلة السومرية)، ومنذ الثلاثينيات والنقاش محتدم بين المستشرقين، من مختصين بالكتابات السومرية وآثاريين، حول هذه المشكلة، دون التوصل إلى نتيجة حاسمة تحظى بقبول الغالبية". (فاضل عبد الواحد علي: من سومر إلى التوراة، ص 21 - 22).
والمقصود بالأصل هنا هو (العرق/السلالة)، والحقيقة أن جميع الباحثين الراسخين في السومريات قد أكدوا أن السومريين ليسوا من السلالة السامية، ومنهم من نسبهم إلى السلالة الآرية، وأكّد معظم الباحثين أن الموطن الأصلي الذي قدم منه السومريون إلى جنوبي ميزوپوتاميا هو منطقة الجبال الشرقية أو الشرقية الشمالية، أي منطقة جبال زاغروس، العمود الفقري لبلاد الكرد. وقد وقع السومريون تحت الاحتلال الأكّادي، بقيادة سرجون الأول Sargon ، منذ عام (2350 ق.م )، واستمر الحكم الأكّادي في سومر حتى عام (2150 ق.م). (سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة ص 67. إبراهيم الفني: التوراة، ص 319. محمد بيومي مهران: تاريخ العراق القديم، ص 90 – 92. سامي سعيد الأحمد: السومريون وتراثهم الحضاري، ص 42. سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة، ص 67).
أما بشأن اللغة السومرية فقد جاء ما يلي:
" هي لغة غريبة، وتكاد تكون منفردة بنفسها، ولا يمكن تصنيفها إلى إحدى العائلات اللغوية المعروفة في العالم، فهي لغة تتصف بظاهرة الإلصاق؛ أي أنها تجمع أو تركّب الجمل الفعلية بطريقة إلصاق الضمائر والأدوات النحوية الأخرى إلى جذر الفعل، بحيث تصبح الجملة الفعلية وكأنها كلمة مركّبة واحدة، وكذلك بالنسبة للأسماء والجمل الاسمية". (عامر سليمان، وأحمد مالك الفِتْيان: محاضرات في التاريخ القديم، ص 73 – 74).
وقيل بشأن اللغة السومرية أيضاً:
" وقد دفعت هذه الخصائص اللغوية بعض الباحثين إلى محاولة إيجاد علاقة بينها وبين بعض اللغات العالمية المعروفة، كاللغة الصينية، والتِّبتية، والدرافيدية، والهنغارية، وبعض لغات إفريقيا، ولغات الهنود الحمر في أمريكا، ولغات الباسفيك، ولغة الباسك، والتركية، والمغولية، وغيرها، ظناً منهم أن ذلك يشير إلى أصل الأقوام السومرية. غير أنه يمكن القول بأن السومرية لا تمتّ إلى أيّ من هذه اللغات بصلة قربى، ولعلها تنتمي إلى عائلة لغوية انقرضت فروعها قبل ابتداع الكتابة". (عامر سليمان، وأحمد مالك الفِتْيان: محاضرات في التاريخ القديم، ص 74).
والغريب أن الباحثين- أوربيين وشرق أوسطيين- يبدون حائرين في أصل السومريين ولغتهم، ولم يكلّفوا أنفسهم بالبحث في العلاقة بين السومريين وأسلاف الكرد، ولا في مناقشة فرضية أن يكون السومريون أنفسهم من أسلاف الكرد، مع العلم أن ثمة عدداً من الأدلة التي تقوّي تلك الفرضية، وهي ما يلي:
1 – قدوم السومريين من المناطق المتاخمة لبلاد الرافدين من الجبال الشمالية والشمالية الشرقية، وبناء معابدهم على أماكن مرتفعة شبيهة بالجبل (زَقُورة) Zaqurato أو Ziquratu أو Ziggurat، واهتمامهم برسم الأشجار الجبلية العالية، ورسم الحيوانات الجبلية كالوعل والماعز على الأختام الأسطوانية. وهل ثمة جبال في شمال وشمال شرقي بلاد الرافدين غير التي كان يستقر فيها أسلاف الكرد منذ العصر الحجري، ويسكنها الكرد الآن؟ (فاضل عبد الواحد علي: من سومر إلى التوراة، ص 22. سامي سعيد الأحمد: السومريون وتراثهم الحضاري، ص 42، 82).
2 – إن انحدار السومريين من جبال كردستان الحالية نحو جنوبي بلاد الرافدين، في حدود فترة (4000 ق.م)، وإنشاء حضارة زراعية متطورة هناك، وصلت إلى حد اختراع الكتابة، يعني أنهم كانوا يمتلكون قدراً لا بأس به من أبجديات الحضارة، وإلى الآن لم يذكر علماء الآثار أية جماعات بشرية مجاورة لبلاد الرافدين، وظهرت على أيديها بوادر الحضارة؛ غير أسلاف الكرد الذين عاشوا في جبال زاغروس.
3 - وجود شبه شديد بين بنية اللغتين السومرية والكردية، فقد مر أن اللغة السومرية إلصاقية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى اللغة الكردية، والغريب أن الباحثين حاروا في أصل اللغة السومرية، وقارنوها بكثير من اللغات، بدءاً من الصينية شرقاً، وانتهاء بلغة الهنود الحمر في أمريكا غرباً، ولم يرغبوا في مقارنتها باللغة الكردية المتاخمة جغرافياً لبلاد سومر. ولعل السبب الأساسي في ذلك هو جهلهم باللغة الكردية.