الفن والثقافة والتراث هوية الشعوب ... فلنحافظ على تراثنا الفلكلوري الكردي ..... لمتابعة آغاني الملاحم الكردية والتراثية اضغط هنا  ::::   أحبتي زوار موقع تيريج عفرين ..... قريباً سيعود الموقع إلى نشاطه السابق . ::::   آخر لقطات بعدسة تيريج عفرين .... شاهد الصور  ::::    شاهد الآن كليب تيريجن عفرين 4.... تيريج روج آفا - الجزء الرابع  ::::    الوديان في منطقة عفرين ... اقرأ المزيد  ::::    سياحة من تراثنا الشعبي ..... المضافات في منطقة عفرين ودورها الاجتماعي  ::::   أهلا بكم في موقع تيريج عفرين ....... Hûn bi xêr hatin :::: 
EN
Mon - 29 / Apr / 2024 - 18:45 pm
 
 
http://www.tirejafrin.com/site/m-kamel.htm
الزاوية الأدبية »

دراسات سوسيولوجية في الشخصية الكردية
 ( الحلقة الحادية والعشرون )
النهج الأهريماني في الشخصية الكردية
زردشت وميديا
الأنبياء ليسوا دعاة إلى عبادة الله فقط، وإنما هم أيضاً قادة ثورات اجتماعية كبرى، ثورات تتناول جميع ميادين الحياة في المجتمعات، وإذا ظللنا نبحث في مملكة السماء عن التفسير الواقعي لنشوب تلك الثورات فلن نجده، إذ إن المشكلة لم تكن هناك، وإنما لا بد من الهبوط إلى مملكة الأرض، إلى شبكة التصادمات والصراعات بين مصالح الأفراد والجماعات، لمعرفة مواقع الخلل بين قوى المجتمع، ولتحديد العوامل التي حوّلت تلك القوى إلى فريقين متناقضين وعياً ورؤيةً ومصالح.
ونعتقد أن هذا هو المدخل الصحيح لفهم العقيدة الزردشتية، فالمعروف أنها تقوم على الصراع بين قوتين: قوة الخير ممثَّلةً في الإله آهورامازدا، وقوة الشر ممثَّلة في أنگراماينيو (أهريمان)، والمعروف أيضاً أن النبي زردشت- عليه السلام- كان ميدياً، وأنه عاش بين عامي (660 - 573 ق.م)، أو (630 – 553 ق.م)، أو (628 – 551 ق.م)، أو (618 – 541 ق.م)، وهذا يعني أمرين:
- الأول: أن زردشت عاصر دولة ميديا في أوج قوتها خلال عهد الملك كَيْخَسْرَو، وعاصرها حينما نخرت من الداخل، وسقطت في عهد الملك أستياگ سنة (550 ق.م)، وإذا علمنا أن أستياگ تولّى المُلك سنة (585 ق.م)، اتضح أن زردشت عاش معظم عمره في العهد الأستياگي.
- والثاني: أن زردشت شهد الصراع بين نهج الاتحاد والقوة، ونهج التفكك والضعف، في المجتمع الميدي، وتأثر عميقاً بذلك الصراع، ونتيجة لذلك انبثقت في ذهنه فكرة الصراع بين الإله النوراني آهورامازدا والكائن الظلماتي أهريمان، وصارت محور دعوته الدينية.
وقد دعا زردشت الميديين إلى الانتماء للنهج الآهورامازدي، والوقوف ضد النهج الأهريماني، ولما أصرّ نخب ميديا على التمسّك بالنهج الأهريماني هجر زردشت ميديا، ووجد الملاذ في كنف الملك الفارسي ڤشتاسپ  Vishtaspa (وشتاسپ)، وكان من عواقب غلبة النهج الأهريماني في المجتمع الميدي سقوط مملكة ميديا في يدي كورش الفارسي، وتحوّل الميديين من موقع السيادة إلى موقع التبعية.
وظل النهج الآهورامازدي والنهج الأهريماني يتصارعان في الشخصية الكردية منذ العهد الميدي؛ الأول يرتقي بها، والثاني ينحدر بها، وقد سلّطنا الضوء، في معظم مباحث هذه الدراسة، على النهج الآهورامازدي، وحان الوقت للحديث عن النهج الأهريماني، وفيما يلي بعض الظاهرات الدالة عليه.
أولاً- ظاهرة الانقسام المفرط
ليس ثمة شعب يخلو من الانقسامات الطبقية والثقافية والسياسية والدينية، لكن الملاحَظ أن الانقسامات بين الكرد تزيد عن الحد المعقول، وتصل إلى حالة التشرذم، وكثيراً ما سمعت بعض عقلاء الكرد يقولون: Kurd refî tîtîya ne (الكرد كسرب تِيتِي)، و(تِيتي) طائر أصغر من العصفور، إذا نزل سرب منه في مكان، وفاجأه شخص ما، طار كلٌّ فرد في اتجاه مختلف، في حين تطير الطيور الأخرى- في هذه الحال- معاً باتجاه واحد. وكان أولئك العقلاء يضربون ذلك المثل على افتقار الكرد إلى وحدة الكلمة والموقف. والحقيقة أن انقسام الكرد على أنفسهم- أفراداً ونخباً وقبائل وأحزاباً- ظاهرة لا يمكن تجاهلها، وهي مصدر كثير من البلايا التي حلّت بهم طوال التاريخ.
ولا حاجة إلى سرد الأدلة على الانقسامات والصراعات القبلية الكردية، فهي معروفة وكثيرة وقائمة إلى يومنا هذا، ولعلها كانت السبب الأقوى في افتقار الكرد- منذ خمسة وعشرين قرناً- إلى قيادة واحدة تجمع شملهم، وقد تأفّف المؤرخ شَرَف خان بَدْليسي بحُرقة من هذه الظاهرة، وعزا إليها جميع السلبيات المدمرة التي تفتك بالمجتمع الكردي، فقال: "ولمّا كان الأكراد ليس بينهم الآن عموماً مَن يطاع أمره فيهم، ويُنفَذ حكمه، فإن أكثرهم صاروا يسفكون الدماء، ويستهترون بقواعد الأمن والنظام، وإنهم يثورون لأتفه الأسباب وأهونها، فيرتكبون الجرائم الكبيرة للأغلاط التافهة والذنوب الصغيرة". (شرف خان البدليسي: شرفنامه، 1/62).
وإلى جانب الذهنية القبلية فإن سيكولوجيا الجبال تلعب دوراً كبيراً في تشرذم المجتمع الكردي، وافتقاره إلى التماسك في المواقف المصيرية، وسبق القول بأن كل كردي يرى في نفسه جبلاً مستقلاً، وإذا كانت هذه حال الأفراد، فكيف تكون حال القبائل؟ وكيف تكون حال الطرق الصوفية والتكتلات والأحزاب؟ وكيف تكون حال زعماء النزعات المناطقية واللهجوية (كردمانج، سوران، لور، زازا)؟ وكيف تكون حال خرّيجي التوجّهات الدينية والمذهبية (مسلمون، مسيحيون، سنّة، شيعة، أيزدي، كاكه ئي، علي إلهي/قِزِلْباش)؟
وليس ثمة شعب في العالم يكون جميع أفراده- على الدوام- صفاً واحداً إزاء جميع القضايا، لكن حينما تصبح القضايا الكبرى والمصيرية في الميزان، كقضايا الوجود والهوية والوطن، يتخلّى القسم الأعظم عن اختلافاتهم وصراعاتهم، ويقفون صفاً واحداً، وتحت راية واحدة وقيادة واحدة، وهذا ما لم يتحقق- إلى الآن- في الشعب الكردي، حتى لكأن ثمة شعوباً كردية وليس شعباً وحداً، وإذا كان ذلك مبرَّراً في عصور الجهل والتخلف، فما هو مبرِّره الآن؟
ثانياً- ظاهرة النرجسية
النرجسية هي النزعة الفردية المفرطة، وللبيئة الجبلية دور كبير في نشأتها وتفاقمها، وتصبح النرجسية أكثر تعقيداً عندما تتفاعل مع الثقافة الرعوية الريفية، وهي تتحول إلى مشكلة كبرى حينما تتوحد بالجهل. والنرجسية الفردية صورة مصغَّرة للنرجسية القبلية، وترجع جذورها، على الصعيد المعرفي والسيكولوجي، إلى ضيق في الأفق، وقصور في الوعي، وسطحية في التفكير، وأنانية في النوايا.
ويبدو أن للكرد نصيباً كبيراً من النرجسية في معظم الميادين، إنها برزت في تشرذم الحركات الكردية السياسية، وفي عجزها عن الاتفاق على القواسم المشتركة، وعلى صياغة مشروع إستراتيجي واحد (انظر مبحث ذهنية الكرد السياسية). وبرزت أيضاً في كيفية إدارة الانتفاضات والثورات الكردية، سواء على صعيد التخطيط أم على صعيد التنفيذ، وكانت من أقوى عوامل انهيارها رغم التضحيات والبطولات.
وليست الحركة الثقافية الكردية بمنجاة من سلبيات النرجسية، فغالبية المثقفين الكرد يعملون على انفراد، هذا مع العلم أن الثقافة هي الميدان الأمثل لصناعة التجانس الحقيقي داخل المجتمع، وهي التي تعصم الأمم من التشرذم، ولا تستطيع الثقافة أن تقوم بدورها الإيجابي الفاعل ما لم تكن متجانسة متكاملة، وكيف تصبح متجانسة متكاملة إذا انعزل كل مثقف في (جبله)، وجهّز مدافعه لقصف المثقف المختلف عنه رأياً أو موقفاً؟ وها هي ذي حال الثقافة الكردية بادية للعيان، وأقل ما يقال فيها أنها حال غير مريحة، وليست في مستوى المهمات المطلوب منها القيام بها.
ودعونا تتساءل: كم من الباحثين الكرد أنجزوا مشروعاً ثقافياً مشتركاً؟ وكم هيئة ومؤسسة ثقافية كردية نسّقت بين المثقفين الكرد، وحفزتهم لإنجاز المشاريع الثقافية الكبرى المشتركة (موسوعات، معاجم، محاور بحثية في الميثولوجيا، والتاريخ، والفلسفة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والعلوم التطبيقية، والفن)؟ وكم واحدة منها حثّت المثقفين الكرد على الانخراط في مشروع شامل للترجمة من اللغات الأخرى إلى الكردية وبالعكس؟ أليست هذه كلها مهمات ثقافية ضرورية وبحاجة إلى جهود مشتركة؟
وقد سئل الكاتب الإنكليزي برنارد شو ذات مرة عن شدة صلعه وكثافة لحيته، فأجاب: "غزارةٌ في الإنتاج وسوءٌ في التوزيع"؛ ويبدو أن النزعة النرجسية أوصلت الحركة الثقافية الكردية إلى حال شبيهة بحال برنارد شو، ولو راجعنا الإنتاج الثقافي الكردي المعاصر لتوصلنا إلى النتيجة التالية: غزارةٌ في الكتابات الشعرية المغرقة في الذاتية، والكتابات الانفعالية والسجالية، وفقرٌ في البحوث المنهجية والدراسات التحليلية، وفي الرواية والقصة والمسرح والنقد، ونعلم أنه ليس من المنطقي تحديد نسب الإنتاج الثقافي في مجتمع ما مسبقاً، لكن هل هذا الوضع الثقافي الكردي طبيعي؟ أليس هذا الخلل دليلاً على استفحال نزعة التمركز حول الذات؟
وماذا عن النرجسية في المجال الاقتصادي؟ إنها- في حدود ما نعلم- ليست أفضل حالاً من الوضع الثقافي، والمعروف أن مجتمعاً مهلهل الاقتصاد لا يمكن أن يهيّئ المناخ لولادة حركة ثقافية نشيطة، ولا يمكن أن يساعد على تكوين ذهنية حضارية متقدمة.
ثالثاً- ظاهرة الأممية السريالية
الأممية نمطان:
- أممية واقعية: وهي أن يحتفظ المرء بهويته، ويُعرَف بين الشعوب بخصوصيته، لكن من غير نرجسية قومية، ولا هلوسات شوفينية، ولا استعلاء على الآخرين، ولا انتقاص من هوياتهم، ولا اعتداء على خصوصياتهم، ويتعامل مع البشر جميعاً بمعايير واحدة، ويؤمن بأنه يتكامل بهم ويتكاملون به.
- وأممية سريالية: أممية فوق واقعية، وهي أن ينخلع المرء من هويته، ويدير ظهره لانتمائه الأصلي، ويقفز فوق واقعه، ويستخفّ بواجباته تجاه بني قومه، ويتخلّى عن مسؤولياته الوطنية، ويتوهّم أنه يسبح في بحر الأممية، في حين يكون سابحاً- وبمسمّيات أيديولوجية براقة- في بحر الهويات الغريبة.
ومن الظاهرات المثيرة أن عدداً غير قليل من النخب الكردية- مثقفين وساسةً- داروا وما زالوا يدورون في فلك الأممية السريالية؛ إما لأنهم إسلاميون أكثر من اللازم (أقصد الإسلام السياسي الصريح أو المموَّه)، وإما لأنهم شيوعيون أكثر من اللازم، وقد أثبتت الأحداث أن هؤلاء وأولئك كانوا على استعداد لأن يديروا ظهورهم إلى قضايا الوجود والهوية .
رابعاً- ظاهرة تهديم الأمجاد
هذه أيضاً واحدة من غرائب النهج الأهريماني في الشخصية الكردية، فالشعوب- وخاصة نخبها- تحرص بشدة على أمجاد الأسلاف، إنها تنقبّ عن مشاهيرها في أسفار التاريخ، فتُخرجهم من العتمة إلى الضوء، وتشيد بخصالهم وإنجازاتهم، وتلقّن الأجيال تبجيلهم والاقتداء بهم، وتدرسّ سِيَرهم في المؤسسات التعليمية، وتقيم لأجلهم المحاضرات والندوات والمؤتمرات، هذا عدا الكتابة عنهم في الصحف والمجلات والكتب، وتأليف المسلسلات والأفلام. لا بل إن بعض الشعوب تجعل من الحبّة قبّة في هذا المجال، فتطمس الجوانب السلبية في شخصيات بعض مشاهيرها، وتضخّم الجوانب المضيئة، وتجعلها أكثر رونقاً وجاذبية.
وماذا عن الكرد ومشاهيرهم؟ المؤسف أنه لأسباب دينية، أو مذهبية، أو أيديولوجية، أو حزبية، أو قَبَلية، أو حتى مناطقية وعائلية، يتسرّع بعض الكرد إلى الطعن في أعلام أمتهم، محاولين الانتقاص منهم، وتقزيم منجزاتهم، وتشويه صورتهم في ذاكرة الأجيال، وأبلستَهم بشكل عام، وفي خضمّ مشروعهم التهديمي يعمدون تارة إلى اقتناص موقف أو قول لذلك العَلَم، فيُخرجونه من سياقه الواقعي، ويقدّمونه في سياق مختلف، ويختلقون تارة أخرى معلومات مضلِّلة، ثم يديرون طاحونة التشويه، ويلملمون حولهم أنصاف المتعلمين والجهلة، ويحوّلون ذلك العَلَم إلى إبليس ينصبّ عليه اللعن من كل اتجاه.
أجل، لا وقت عند هواة تهديم الأمجاد هؤلاء لإجراء دراسات موضوعية موثَّقة حول المشاهير الكرد، وهم ليسوا معنيّين بتحليل المواقف في سياقاته التاريخية، ولا يطالبون أنفسهم بالمقارنة بين الإيجابيات والسلبيات، ليروا أيّها كان أكثر تأثيراً على الصعيد التاريخي الأشمل، وهم ليسوا معنيّين أيضاً بتقدير المتاعب والمصاعب التي تحمّلها أولئك المشاهير في أكثر المراحل حرجاً، ولا بتقييم الآلام والمخاطر والمهالك التي عرّضوا لها أنفسهم وأهليهم، ولا باحترام روح البسالة والتضحية والفداء التي تميّزوا بها.
ألا يعلم هادمو الأمجاد أن مشاهير الأمم يصبحون- بعد رحيلهم إلى الأبدية- فوق الانتماءات الدينية والمذهبية والقبلية والحزبية والمناطقية والعائلية؟ إنهم يصبحون مُلكاً للأمة، ورموزاً لشخصية الأمة، ومنارات تسترشد بها الأجيال في ظلمة المحن، إن الأمة التي تستهين بمشاهيرها، وتتطاول عليهم، وتتعامل معهم بسذاجة وسفاهة، ليست أمة جاهلة فقط، ولا غافلة فقط، ولا حمقاء فقط، وإنما هي أمة فقدت بوصلة الاهتداء إلى الذات، وافتقرت إلى حس الكرامة الأصيل، وقررت أن تبقى على الدوام في المؤخرة.
خامساً – ظاهرة الغفلة
نقيض الغفلة هو اليَقَظة والتنبّه والحَذَر، وثمة مقولة شهيرة هي " لستُ بالخِبّ، ولكنّ الخِبّ لا يخدعني" [الخِبّ: المخادِع]، وهكذا يكون اليقظ المتنبِّه الحَذِر، إنه لا يخدع الآخرين ولا يمكر بهم، لكنه في الوقت نفسه عارف بفخاخ الماكرين، فلا يقع فيها. أما الكرد فلهم في مجال الغفلة تراث ضخم، حتى إنهم صاروا مضرب المثل بذلك بين شعوب غربي آسيا، وشاعت نتيجة لذلك مقولة " هل تَسْتَكْرِدُني"؟! أي هل تعتبرني ساذَجاً مغفَّلاً؟! وهذه المقولة شائعة في بلاد الشام ومصر، حيث استقر فيها كثير من الكرد، وخاصة في العهد الأيوبي، وأعلم أن ثمة تفسيرات لتلطيف أثر هذه المقولة، لكن لا نفع في ذلك؛ لأنها أصبحت دارجة بمعنى السذاجة والغفلة، ولا شيء غير ذلك.
وطوال التاريخ دفع كثير من نخب الكرد حياتهم نتيجة الغفلة، وخاصة الغفلة السياسية، أما ما جرّته غفلة بعض النخب على الكرد من كوارث فحدّث عنه ولا حرج.
ولا مجال الآن لذكر جميع الشواهد الدالة على غفلة كثير من نخب الكرد، إنها كثيرة ومتنوّعة الأشكال، ويُستحسن أن تُجمَع في مؤلف مستقل، وتُخضَع للتحليل المعمَّق، وتُستخلَص منها العبر. ويمكن إرجاع ظاهرة الغفلة عند الكرد إلى ثلاثة عوامل رئيسة: أولها السذاجة في الذهنية الرعوية الريفية. وثانيها طيبة القلب الزائدة عن الحد. وثالثها الثقة المفرطة بالآخر. وقد لاحظ عدد من الكردولوجيين هذه الظاهرة، ومنهم أرشاك سافراستيان في قوله: "إن بساطة تفكيرهم، وقلوبَهم الطيبة ورجولتَهم، استُغلّت من قبل الترك، فاستخدموهم كقذائف لمدافعهم في حروبهم الخاسرة على كل الجبهات". (أرشاك سافراستيان: الكرد وكردستان، ص 130).
سادساً- ظاهرة الانسلاخ
ظاهرة الانسلاخ عن الهوية- لغةً وقيماً وسلوكاً وهموماً- نامية بين الكرد، وخاصة أولئك الذين استقروا في المدن غير الكردية، أو هاجروا إلى دولة ما في الشرق أو في الغرب، وهي واضحة أيضاً بين الكرد الذين تزوّجوا من نساء غير كرديات، بل هي واضحة أيضاً في بعض القرى الكردية المتاخمة للقرى غير الكردية، حتى إنه يمكن القول: كل كردي غادر البيئة الكردية أصبح مشروعاً للانسلاخ. ولسنا من دعاة العنصرية القومية، ولا من هواة انغلاق الشعوب على نفسها، لكن الفرق كبير بين أن تنفتح على الآخرين وتتواصل معهم من خلال هويتك الأصيلة، وبين أن تنسلخ من هويتك التي اختارها الله لك، ورسّخها في جيناتك، وجعلك مسؤولاً عنها.
واللغة أولى ضحايا الانسلاخ؛ فالمنسلخون يهجرون التحدث بالكردية داخل بيوتهم ومع أفراد أسرهم، ويشرعون في التحدث على نحو مكسَّر بلغة القوم الذين حلّوا بينهم، وعلى ذلك يربّون أولادهم، ولا يمرّ الجيل الثاني إلا ويكون معظم أولادهم صاروا غرباء عن الكردية، وماذا يبقى من الانتماء إلى الكرد بعد الانسلاخ من اللغة؟ وكيف يمكن للأجيال التي أُقصيت عن لغتها الأم أن تتواصل شعورياً وفكرياً مع أبناء قومها؟ كيف يمكنها أن تتشرّب الثقافة الكردية السارية في الخطاب اليومي، وفي الأمثال الشعبية، وفي الأغاني والملاحم؟ كيف يمكنها أن تتذوّق الموسيقى الكردية؟ وكيف لها أن تتواصل مع تراث الأجداد؟
سابعاًً- ظاهرة الانمساخ
مرتبة الانسلاخ تمهيد لمرتبة الانمساخ، فالكردي الممسوخ يقطع صلاته بأصله الكردي، بل يتبرّأ من الكرد ويقف ضدهم .
ثامناً – ظاهرة أخلاق العبيد
في كل مجتمع نمطان متصارعان من القيم:
- قيم النبل: يجسّدها النخب النبيلة (الأحرار)، وهؤلاء يمتلكون وعياً عميقاً وكليانياً، ويستلهمون روح الأمة شعوراً وفكراً، ويعملون بحكمة وحزم للانتقال بها نحو الأفضل، إنهم متحررون من جاذبيات الأنانية، ومنتصرون على النزعة النرجسية، ومستعدون لبذل الجهد والمال والنفس، لا ينتظرون من أحد جزاءً ولا شُكوراً.
- وقيم الانحطاط: يجسّدها النخب المنحطّة (العبيد)، وهؤلاء ذوو وعي سطحي وقاصر، ويعيشون حالة اغتراب عن ذواتهم وعن أمتهم، والأمة بالنسبة لهم مجرد بقرة حلوب لا أكثر، ولا يخجلون من أن يمارسوا - على حساب أمتهم- أبشع ألوان الأنانية وأكثرها خسّة ونذالة، ويتقبّلوا جميع أشكال الانسلاخ والانمساخ والخيانة.
  تاسعاً – ظاهرة الخيانة
من الظاهرات المثيرة حقاً أن سِفر الخيانة في تاريخ الكرد كبير، وفيه من الغرائب الشيء الكثير، وهو يجمع في طيّاته جميع الظاهرات الأهريمانية السابق ذكرها، وليست ثمة ثورة كردية- على الأقل خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين- إلا وكانت الخيانة تقف لها بالمرصاد، وما من نكسة أو هزيمة حلّت بثورة كردية إلا وكان الخونة من وراء ذلك، قليلاً أو كثيراً، سراً أو جهراً، مباشرة أو بشكل غير مباشر، وبطبيعة الحال كان للخونة الكرد على الدوام حججهم التي برّروا بها مواقفهم الخيانية، إنها مبررات شخصية تارة، وعائلية تارة أخرى، وقبلية تارة ثالثة، ودينية تارة رابعة، ومذهبية تارة خامسة، وأممية تارة سادسة، وقومية ووطنية تارة سابعة.
وزعيم الخونة في تاريخ الكرد هو هارپاك Harpage (هارپاجوس) الميدي، وقد أطال هيرودوت الحديث عن تفاصيل خيانته، وخلاصتها أنه كان القائد العام للجيش الميدي في عهد الملك الميدي الأخير أستياگ، وكان ناقماً على استبداد أستياگ، فجمع حوله بعض كبار رجال الدين الموغ (المجوس) ورجال السياسة والقادة الناقمين، لكن بدلاً من أن يوظّف ذلك لتقويم الاعوجاج، وتصحيح الوضع من الداخل، تحالف سراً مع كورش الفارسي (كان تابعاً لدولة ميديا)، وحثّه على مهاجمة دولة ميديا، وكانت النتيجة أن كورش اقتحم العاصمة أگباتانا سنة (550 ق.م)، وأسر الملك أستياگ، وزجّ به في السجن، وأصبحت مملكة ميديا والبلدان التابعة لها غنيمة بين أيدي الفرس، وقال دياكونوف معلّقاً على هذا الحدث: "ولولا خيانة كبار رجال ميديا، داخل الدولة الميدية، لما استطاع الفرس السيطرة على الحكم في الإمبراطورية الميدية". (دياكونوف: ميديا، ص 394. وانظر هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 82 - 93).
وقد جاء في التراث العربي قبل الإسلام، أن القائد الحبشي أَبْرَهَة غزا مكة (العاصمة الدينية والاقتصادية والسياسية للعرب)، زاحفاً بجيشه من اليمن سنة (570م)، واستعان في طريقه بدليل عربي يدعى (أبو رِغال)، كي يرشده إلى موقع مكة، ومات أبو رغال بين الطائف ومكة، ولما أخفق أبرهة في حملته، ورجع من حيث أتى، لم ينس العرب خيانة أبي رغال، فحوّلوا قبره إلى رمز للشر، وراحوا يرجمونه، ولعل أحد مواقع رجم (الشيطان) في شعائر الحج هو ذلك القبر، ألا كم من أبي رغال في تاريخ الكرد؟ وكم من أبي رغال كردي ما زال يعمّق نهج الخيانة إلى يومنا هذا؟
المراجع
1. أَرْشاك سافْراسْتيان: الكرد وكردستان، ترجمة الدكتور أحمد محمود الخليل، مطبعة دار سَرْدَم للطباعة والنشر، سليمانية، إقليم كردستان، 2008.
2. باسيلي نيكيتين: الكرد، ترجمة الدكتور نوري طالباني، دار الساقي، بيروت، الطبعة الثانية، 2001م.
3. جرجيس فتح الله: يقظة الكرد، دار آراس، أربيل، كردستان، الطبعة الأولى، 2002م.
4. جوناثان راندل: أمة في شقاق (دروب كردستان كما سلكتها)، ترجمة فادي حمّود، دار النهار، بيروت، 1997م.
5. دياكونوف: ميديا، ترجمة وهبيّة شوكت محمد، رام للطباعة والتوزيع، دمشق.
6. زاريوانت (زاوين نعلبنديان): طورانيا الموحَّدة المستقلة، ترجمة الدكتور ألكسندر كشيشيان، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 2001م.
7. زنار سلوبي: في سبيل كردستان: ترجمة ر. علي، رابطة كاوا للثقافة الكردية، بيروت، الطبعة الأولى، 1987م.
8. شَرَف خان البَدْليسي: شَرَفنامه في تاريخ الدول والإمارات الكردية، ترجمة محمد علي عَوْني، دار الزمان للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 2006م.
9. هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله المَلاّح، المجمَّع الثقافي، أبو ظبي، 2001م.
ــــــــــــــــــ
د. أحمد الخليل  / في 1 – 9  -  2010
dralkhalil@hotmail.com


تعليقات حول الموضوع

دزلازكين احمد صالح | شكر
شكرا جزيلا وأتمنى مقالات أكثر تفائلا
10:46:30 , 2010/09/04


هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟

إسمك :
المدينة :
عنوان التعليق :
التعليق :


 
 |    مشاهدة  ( 1 )   | 
http://www.tirejafrin.com/index.php?page=category&category_id=204&lang=ar&lang=ar