الفن والثقافة والتراث هوية الشعوب ... فلنحافظ على تراثنا الفلكلوري الكردي ..... لمتابعة آغاني الملاحم الكردية والتراثية اضغط هنا  ::::   أحبتي زوار موقع تيريج عفرين ..... قريباً سيعود الموقع إلى نشاطه السابق . ::::   آخر لقطات بعدسة تيريج عفرين .... شاهد الصور  ::::    شاهد الآن كليب تيريجن عفرين 4.... تيريج روج آفا - الجزء الرابع  ::::    الوديان في منطقة عفرين ... اقرأ المزيد  ::::    سياحة من تراثنا الشعبي ..... المضافات في منطقة عفرين ودورها الاجتماعي  ::::   أهلا بكم في موقع تيريج عفرين ....... Hûn bi xêr hatin :::: 
EN
Thu - 2 / May / 2024 - 21:26 pm
 
 
http://www.tirejafrin.com/site/bayram.htm
الزاوية الأدبية »
الحلقة العاشرة

الصحّة أولاً

تقول الحكاية :

   إنّ فلاحاً من ريف حلب، قصد مدينة حلب في أواخر فصل الخريف، بعدما أنهى أعماله وباع محصوله، لشراء حاجيات أسرته لموسم الشتاء، كما كان الفلاحون يفعلون قديماً ، إذ لم تكن المواصلات ميسّرة في كل وقت وبخاصّة أيام الشتاء ، كان ذلك في أواخر أربعينيات القرن العشرين .

   وتجوّل الرجل في أسواق المدينة الكبيرة،وهو يشتري ما نوى في نفسه أن يشتريه ، وما أوصاه أهل بيته بشرائه ،وحين انتصف النهار وشعر الرجل بالجوع، أودع ما اشتراه عند صاحب محلّ يعرفه، أمانة لوقت سفره، وقصد باب الفرج، ليأكل اللحم المشويّ " الكباب "، فمن كان يأتي إلى مدينة حلب ولا يأكل " الكباب "، فكأنه ما دخلها ولا زارها، هذا كان معروفاً في ريف حلب ، وبخاصّة فاللحم المشويّ لا يتوفّر في الريف إلا في أوقات خاصّة جداً .

ونعود لحكايتنا لنكمل قائلين :

   إنّ الرجل دخل مطعماً من مطاعم باب الفرج، وكانت كثيرة يومذاك،وطلب من صاحب المحلّ أن يشوي له " كيلو غراماً "من " الكباب "، وأن يحضر معه " كيلوغراماً " من الخبز،و"كيلو غراماً " من اللبن ، وما يضعونه بعد ذلك من الخضر و"السلطات" وغير ذلك .

   وجلس صاحبنا على طاولة منتظراً إعداد ما طلب، وما هي إلا دقائق قليلة حتى وضع أمامه ما طلب ، والنادل يسأله :

هل ستأكل أم ستنتظر رفاقك ؟

     سأله النادل سؤاله، لأنه كان معروفاً أنّ الرجل العادي لا يتجاوز ما يستطيع أكله من " الكباب " مقدار ربع الكيلو غرام ، ولكنّ صاحبنا الفلاح لم يلتفت إلى سؤاله ، وانكبّ على الطعام الذي وضع أمامه ، وراح يأكله بشراهةٍ شديدةٍ ، غير آبهٍ بصاحب المطعم والنادل ومن فيه ، وهكذا وبسرعة أتى على ما أمامه، ثم أردف ما أكل بكأس ماء بارد شربه ، ثم  مسح فمه بيده وهو يقول:

 الحمد لله الذي أطعمنا وأسقانا .

   وكان في المطعم وعلى الطاولة المقابلة لطاولة الفلاح المذكور، رجل مدينيّ ذو مظهر أنيق،   وأمامه صحن صغير ، فيه " قطعتان ( سيخان ) من " الكباب " لا يتجاوز طولهما وحجمهما طول وحجم قطعة واحدة ( سيخ واحد ) من التي أكلها الفلاح صاحبنا ،وكان الرجل ينظر إلى ما أمامه ساهماً لا يأكل ، وهو ينظر إلى الفلاح صاحبنا الذي كان  يلتهم  ما أمامه بإعجاب كبير ،وحين انتهى صاحبنا من الأكل ، لم يشعر إلا والرجل المدينيّ الأنيق ذاك ، يأتي إليه حاملا صحن طعامه ، ويضعه أمامه ويجلس إلى طاولته وهو يقول :

أرجوك يا أخي أن تأكل هذا أيضاً .

وللحقيقة فإنّ صاحبنا الفلاح لم يكن قد شبع تماماً ، لذا لفّ ما قدّمه له الرجل بنصف رغيف، والتهمه شاكراً حامداً.

    حين انتهى صاحبنا من تناول ما قدّمه له الرجل المد ينيّ ، التفت هذا إليه وقال له :

اسمع يا أخي الكريم ، أنا رجل مقتدر ماليّاً، ولا تؤاخذني إذا قلت لك إني أمتلك ما يساوي وزنك ذهباً ،ومع ما أملك لا أستطيع تناول " سيخين من الكباب " ، وذلك لمرض في معدتي أعاني منه ما أعاني ، فاحمد الله يا هذا على الصحّة التي تتمتّع بها .

قال الفلاح يجيبه :

   أنا أحمد الله كثيراً يا أخي ، وأحمده دائماً على نعمه الكثيرة جداً ، وليكن في علمك أنّي ومع هذه الصحّة التي أتمتّع بها ، لا أقدر على تناول " الكباب " لأنّي لا أملك ثمنه دائماً ، فسبحان الله الذي حرم عباده من الطيّبات بطرق مختلفة . 

   قال الفلاح ذلك ربما مواسياً ، ولكن الرجل المدينيّ جاوبه قائلا :

ومع ذلك فلسنا متساويين يا أخي، وأتمنّى أن أكون بصحّتك ولا أملك شيئاً .

                         ـــــــــــــــ

 الوجه   الأبيض

( الحمد لله الذي بيّض وجهنا مع شريچنا )

    تقول حكايتنا التي استمدّت أحداثها، من" الشراكات" التي كانت تتم بين تجّار مدينة حلب، وبين أهل الريف من بدو وحضر، فقد كان التجار الحلبيّون ينوّعون مصادر دخلهم ، وذلك اتّقاءً لعاديات الأيام ، وعلى مبدأ أن لا يضع المرء بيضه كلّه في سلّة واحدة :

   شارك حلبيّ بدويّاً جاء إليه في الخان الذي يمتلكه ،وطلب منه أن يشتري له قطيعاً من الغنم، ليأخذه ويرعاه في البادية، مقابل نصف إنتاج القطيع ،من خراف وصوف و سمن وأجبان ،وكان الحلبيّ راغباً في مشاركته ،فاشترى له عدداً محدوداً من النعاج،وسلّمها إليه داعياً له بالتوفيق ، وهو فعل ذلك ليجرّبه، وهل هو أمين أم لا ؟وبالتجربة يتعرّف الإنسان إلى الرجال وأماناتهم ، وإذا أظهر الرجل وفاء وأمانة ، عندها سيرفد قطيعه بالكثير .

   وهكذا مضى البدويّ الشريك بالنعجات التي دفعهنّ إليه شريكه الحلبيّ ، وغاب عاماًَ كاملا، ليعود وهو يسوق عدداً من الخراف، ويحمل على جملٍ حملا من صوف، وعلى جملٍ آخر وعائين من سمن ،وقدّم كل ذلك لشريكه الحلبيّ وهو يقول :

تفضّل يا شريچي ( شريكي) ، هذه حصّتك ونصيبك، هي أمانة عندي وقد أوصلتها إليك سالمة ، الأمانة غالية ياشريچي .  

   وفرح الشريك الحلبيّ كثيراً،فهاهو شريكه البدويّ قد أثبت وفاءه وأمانته، وهاهو قد عاد إليه بحصّته من إنتاج النعجات القليلة التي اشتراها له، وهي تكاد تساوي نصف ما دفع فيها من نقود.

   ولهذا كله استقبل الحلبيّ شريكه البدويّ بترحابٍ شديد، واستضافه في بيته يوماً بل يومين، وهذا تكريم لايناله إلا المقرّبون جداً من الشركاء، وقبل أن يغادر الضيف الشريك، كان الحلبيّ قد جمع ما عنده من مال، وأضاف إليه مصاغ زوجه، ومصاغ شقيقاته، وهو يمنيّهنّ بربحٍ وفيرٍ في العام القادم ،يؤمّن لهنّ ما بذلنه من حصّتهنّ من الأرباح فقط ،وقد اشترى بكل ذلك قطيعاً كبيراً من النّعاج وما يلزمهنّ من كباشٍ ، دفعهنّ إلى شريكه الأمين، وهو يقول له :

اذهب يا شريكي الأمين ، ولترافقك السلامة . كان الرجل قد صدّق أنه أمين ، بل أمين جداً .

   وذهب البدويّ بالقطيع الكبير،ومضى عامٌ ولم يعد ،ومرّ عامٌ ثانٍ، وقد لعب الفأر بعبّ الشريك الحلبيّ، ولم يعد ،وراح الشريك الحلبيّ إلى البادية القريبة يسأل عنه ، فقيل له  :

قد أوغل في عمق البادية . فعاد مهموماً لا يدري ماذا يفعل غير الانتظار .

   ومرّت على غياب البدويّ أعوامٌ أربعةٌ،أعوامٌ أربعةٌ قضاها الشريك الحلبيّ وهو يتقلّب على الجمر ،ويوماً وبعدما أغلق الرجل " خانه " وعاد إلى بيته، وهو يفكّر ويقلّب الأمور على وجوهها، ولا يجد حلا لما هو فيه ، وبينما هو في بيته يداري همّه، إذ بالباب يطرق ، وإذ بالشريك البدويّ على الباب ، وبيده علبة لبن .

   وفرح الحلبيّ كثيراً ،ورحّب بشريكه ترحيباً مشوباً بشيء من العتب،وأدخله البيت متلهّفاً لسماع أخبار القطيع ،ولكنه فوجيء بالحزن الذي أبداه شريكه، وفوجيء بالأخبار التي نقلها إليه وهو يسردها متتالية :

  والله يا"شريچي" وجهي أسود منّك،عشرين ثلاثين نعجة جلاهن الذيب ( أكلهنّ الذئب) ،عشرين ثلاثين نعجة " ماتن " ( ماتت ) من الصكيع ( الصقيع ) ،ثلاثين أربعين وحدة " ماتن فطيس بالشتا اللي مظى " (نفقت في الشتاء الماضي ) ، وجم ( كم ) وحدة ماتن ( ماتت ) من الجوع لمّن ( لمّا )  أثلجت ( وعدد منهنّ نفقت جوعاً حين أثلجت الدنيا ، وهيج ( وهكذا) يا شريچي جيتك ايد من ورا ، وايد من جدّام ( جئتك فارغ اليدين،ألوّح بيديّ أمامي وخلفي ) .

وسمع الحلبيّ كل ذلك وهو يكاد يتميّز من الغيظ ،وحين وصل البدويّ إلى نهاية الأخبار المحزنة التي سردها ، التفت إليه  وسأله قائلا :

ومن أين جئت بعلبة اللبن هذه ، وقد فقدت القطيع كله ؟

أجاب البدويّ:

قلت لنفسي من المعيب أن آتي لعندك ويدي فارغة بعد كل هذه الغيبة ، لذا طلبت هذه العلبة من جيراني وجئت بها .

وبهدوء حمل الحلبيّ علبة اللبن ودلقها فوق رأسه وهو يقول له :

خذها لا أريدها .

وبهدوء شديد راح البدويّ يمسح وجهه مزيلا عنه اللبن وهو يقول : الحمد لله الذي بيّض وجهنا مع شريچنا ، الحمد لله الذي بيّض وجهنا مع شريچنا.

                                ـــــــــــــ

الحاج  محمد  الحلبي

( الذي من باب النيرب )

    باب " النيرب " بابٌ من أبواب حلب القديمة ،وعليه وباتجاه الداخل نشأ وامتد حيّ حلبيّ عريق سمّي باسم الباب، فقيل حيّ " باب النيرب "، وهو حيّ مفتوح باتجاه البادية ، ويعمل ناسه في الأعمال التي تخدم البدو ، فهم يستقبلون نتاجات البادية من الأغنام ومنتجاتها ، وكذلك من غير الأغنام من قطعان البادية ، ويبيعون البدو حاجياتهم من لباسهم وحاجيات قطعانهم ، كما يشاركونهم في القطعان ، إذ يقوم تاجر حلبيّ ما بشراء عدد من النعاج وتسليمها لأحد البدو الذي يتوسّم فيه الأمانة ، ويدفعها إليه ليرعاها عاماً كاملا مقابل نصف إنتاجها ، وتظلّ الملكية محفوظة له عدداً معيّنا من السنوات يتم الاتفاق عليها .

   وهكذا وكغيره من التجّار قام الحاج محمد صاحب الخان المعروف في باب النيرب، بمشاركة أحد البدو ، ونمت شراكتهما وصارا صديقين شريكين، بعدما كانا شريكين فقط ، وذلك لصدق البدويّ وأمانته الكبيرة .

   ويوماً من أيام الربيع ، جاء شريك الحاج محمد إليه، وأصرّ عليه لمرافقته إلى البادية ، ليستضيفه أياماً يطّلع خلالها على حال قطيعه ، وقبل هذا كله ، ليمتّع ناظريه بمناظر الطبيعة الخلاّبة في فصل الربيع .

  وهكذا وبعد إلحاحٍ ، خرج الحاج محمد مع شريكه إلى البادية، حيث مكث أياماً قليلة في ضيافة شريكه معزّزاً مكرّماً ، وزيادة في تكريمه أرسله مع ابنه الشاب ( حسن) ليتجوّل في ربوع البادية ، وليرى الحلال في المرعى أيضاً .

   وخرج الحاج محمد وحسن ابن شريكه، راكبين فرسين أصيلتين ،وأوغلا في البادية حتى لم يعودا يشاهدان خياماً أو غيرها مما يشير لوجود البشر، وشعر الحاج محمد بالعطش بعدما نفد الماء منهما ، وبعد قليل لمحا  من بعد خيمةً متطرّفةً ، فأسرعا إليها مستبشرين ،وحين وصلاها برزت لهما فتاة حسناء ، أحسنت استقبالهما،وأسقتهما ماءً عذباً أدخل الطمأنينة إلى قلب الحاج، وطلبت منهما النزول في ضيافتهما ، ولكنهما اعتذرا لأنهما مستعجلان ، وقبل أن يمضيا سأل الشاب حسن الفتاة :

مااسمج ( ما هو اسمك ) ؟

ردّت : اسمي في مقبض سيفك .

فقال لها من فوره :

أهلا بك يا فضّة . (لأن مقبض سيفه كان من الفضّة ) .

ثم سألته الفتاة :

وأنت ما اسمك ؟

قال لها الشاب على طريقتها :

 اسمي في وجهج ( في وجهك ) .

فقالت من فورها :

أهلا بك يا حسن . لأنها كانت حسناء .

وبعد ذلك التفتت الفتاة إلى الحاج محمد وسألته :

وأنت ما اسمك يا عم ؟

وقال الحاج محمد من فوره :

أنا هذا " الأكل هوا " وهذا الّلف والدوران لا أعرفه ، أنا الحاج محمد من باب النيرب ، من فصت (وسط) حلب .

                                    ـــــــــــــ

 قطّ   ترمانين

 وترمانين بلدة صغيرة من أعمال حلب، تقع جنوب جبل الشيخ بركات ، ومنها تخرج حكايتنا التي تقول :

   في أسرةٍ فقيرةٍ من أسر" ترمانين" ، وكان الناس كلهم فقراء في تلك السنوات البعيدة من أربعينيات القرن العشرين ، في تلك الأسرة الفقيرة ،عاش أبٌ وأمٌ وأولادهما السبعة في بيت بسيط لا يكاد يسعهم ، وفي تلك الأسرة قام الأولاد بإيواء قطٍّ أحمر كبير ،وأقاموا معه ألفة بل وصداقة، وراحوا يطعمونه مما يأكلون ، ويلعبون معه كثيراً ، وكان هذا مبعث قلق الأم وخوفها على أولادها منه ، وبخلا بالطعام الذي يطعمونه إياه، لأن حالتهم كانت بائسة .

    ولكل ما سبق، أمسكت به يوماً ، ووضعته في كيس أغلقته عليه جيداً،وأعطته لرجلٍ كان ذاهباً إلى" دارة عزّة "القريبة ، ليطلقه هناك ، فيتوه ولا يعرف العودة ، وهكذا تتخلّص منه .

   وقضى الأطفال أياماً قليلةً حزانى على قطّهم الذي أبعد عنهم كرهاً ، وبعد ما يقارب الأسبوع ظهر بينهم وراح يتحسّسهم واحداً واحداً، فرحاً بهم مثلما فرحوا به واحتضنوه ، ولكن فرح الصغار لم يدم طويلا ، إذ أنّ أمهم أمسكت به من جديد بعد أيام قليلة ، ووضعته في كيس كما في المرّة الأولى، وأعطته لرجلٍ ذاهب إلى" حلب "، وطلبت منه أن يطلقه هناك ، أملا منها في عدم عودته ، فـ "حلب" بعيدة ، وهو لن يعرف طريق العودة منها إلى "ترمانين " .

   ومن جديد جلس الصغار حزانى غاضبين ، ومن جديد ارتاحت المرأة أم الصغار أياماً من القط اللعين، ولكن فرحها لم يدم طويلا ، إذ بعد مرور حوالي أسبوعين، ظهر قطّ العائلة الأحمر، يمشي متثاقلا، ويتحسّس الصغار بجسمه الذي بدا نحيلا ، واحتضنه الصغار، وفرحوا به كثيراً، ورجوا أمهم أن لا تبعده من جديد ، فهزّت برأسها وكأنها توافق على طلبهم، وفي الحقيقة كانت تنوي غير ذلك ، ولذلك اغتنمت فرصة سفر أحد رجال القرية بعيدا ، إلى بلدة     " دير حافر" الواقعة جنوب حلب وعلى مبعدة منها كثيراً ، فأمسكت بالقطّ في غفلة من أولادها ، ووضعته في كيس  ، وطلبت من الرجل المسافر أن لا يطلقه إلا في " دير حافر " نفسها ، وارتاحت وتنفّست الصعداء بعدما ذهب الرجل ، ظانّة أن القطّ الأحمر اللعين لن يعود هذه المرّة أبدا .

   وجلس الصغار حزانى،فقد عرفوا أن قطّهم الجميل لن يعود هذه المرّة ، ومرّت عليهم أيام لم يأكلوا فيها طعاماً حزناً عليه،ولكن ومع مرور الأيام نسوه،وعادوا للعبهم وحياتهم العادية .

   ومرّت الأيام ، ذهب الصيف وجاء الخريف، وبدأت البرودة تغزو الناس والبيوت في الأمسيات ، ولم يعد الصغار يتذكّرون قطّهم الأحمر الجميل إلا فيما ندر ، كانت قد مرّت شهور ثلاثة وربما أكثر على رحيله القسريّ .

    ويوماً وعند المساء،وبينما الصغار جالسين متحلّقين منتظرين أمهم لتضع لهم طعام العشاء ، سمعوها تصيح بغضب :

هل عدت من جديد ؟

   ونظر الصغار إلى حيث تنظر أمّهم ، فرأوا قطّهم الأحمر الجميل واقفاً بالباب، ينظر إليهم بمودّة ومحبّة ، وشاهدوه يحوّل نظره إلى أمهم التي زجرته، وينظر إليها نظرات ناريّة، ثم رأوه يتقدّم نحوهم ببطء وتثاقل، كان هزيلا جداً ، وكان الضعف والنحول باديين عليه كثيراً ، ومع ذلك تقدّم منهم ، وراح يتمسّح بكل واحد منهم بمحبّة وحنان شديدين، وبعدما انتهى منهم ، سار نحو الباب بهدوء، وقبل أن يخرج نظر إلى الأم نظرات ناريّة عاتبة ، وخرج ولم يعد بعد ذلك .

                             ــــــــــــــ

الّلقيـــة

تقول الحكاية :

    في فجر أحد الأيام، خرج رجل حلبيّ من بيته في حيّ " السفّاحية " بحلب ،قاصداً الجامع الكبير ( الجامع الأمويّ ) كما يسمى أيضاً،لتأدية صلاة الفجر، لم يكن يدري ما الذي دفعه للتوجّه لذلك الجامع في ذلك اليوم، لأنه كان يؤدّي صلواته دائماً في الجامع الملاصق لبيته، حدث ذلك في بدايات القرن العشرين ، وكانت الدولة العثمانية لا تزال حاكمة .

   وهكذا مضى الرجل في طريقه، مجتازاً الشارع الرئيسيّ المؤدّي للجامع الكبير،ولا يدري كيف عثرت قدمه بشيء ما ، فنظر ووجد صرّة غير واضحة المعالم، فقد كان الضوء لا يزال شحيحاً، ومدّ الرجل يده فرفع الصرّة إليه ، وتحسّسها فوجدها ثقيلة ، وحين فتحها وجد بداخلها ليرات ذهبية، فأعاد صرّها، ومضى إلى الجامع فصلّى خلف الإمام ، وبعد الصلاة عرض الأمر على الإمام، وسأله ما عليه فعله ؟

وبيّن له الإمام ما عليه قائلا :

   عليك أن تعلن على الناس أنك وجدت مالا ، وأن من فقده عليه أن يعطيك إشارةً تثبت صحّة ادّعائه، فإذا جاء من أعطاك الأوصاف الصحيحة لما وجدته ، أعدت له ماله .

ـ وإذا لم يظهر أحد يا شيخي ؟

ـ تنتظر عاماً كاملا ،وبعدها تتصرّف بالمال بما يرضي الله .

   ومرّ عامٌ كاملٌ، ولم يظهر صاحب المال ،وقرّر الرجل التصرّف به ،وكانت به حاجة ، وليصرف منه على نفسه بوجهٍ حلال،قام بإدخال غرفة من بيته الملاصق للجامع الذي في حيّه بالجامع،وجعله مكاناً لوضوء للمصلّين فيه ، وكان ذاك الجامع ، بدون مكان للوضوء،ثم بدأ يصرف من المال على حاجته ، وعلى المحتاجين والمساكين ، وفي وجوه الخير عموماً .

   ومرّ عامٌ ثانٍ ،ويوماً والرجل في بيته وقد نسي موضوع الصرّة ، قرع عليه الباب، ولما فتحه وجد رجلا سلّم عليه، وطلب منه السماح له بزيارته، وبعد الدخول والسلام قال له :

  لقد سافرت منذ عامين إلى خارج حلب في تجارة لي،وحين تفقدّت مالي في المكان الذي ذهبت   

إليه ، وجدته ناقصاً مئة ليرة ذهبية رشاديّة، وكانت مصرورة في منديل مثل هذا المنديل. وأخرج له الرجل منديلا مدّه إليه ،وأضاف :

   كنت في الغربة،وفقدت الأمل في العثور على مالي ، وحين عدت ورويت لمن حولي الخبر ، قالوا لي أنك عثرت على مالٍ ما، فيا أخي إذا كان ما عثرت عليه مطابقاً لما فقدت ، فأرجو أن تعيد لي مالي .

   وفوجيء الرجل الذي عثر على تلك الّلقية  ،فوجيء تماماً ، ولم يدر ما يقول ، فالرجل قد أعطاه وصفاً دقيقاً لما عثر عليه، وهو صاحبه لا شكّ في ذلك ، ولكنه كان قد تصرّف بالمال، فماذا عليه أن يفعل ؟ وبماذا يجيب ؟

ولم يفكّر الرجل طويلا ، فالحقّ أحقّ أن يتّبع ، ولذلك قال لصاحب المال :

وصفك مطابق لما عثرت أنا عليه ، وأرجو أن تمهلني ثلاثة أيام لأردّ لك مالك .

   وهكذا وجد الرجل نفسه في ورطةٍ كبيرة، فهاهو قد وعد صاحب المال بردّه بعد ثلاثة أيام، وهو لا يدري كيف وعده بذلك ؟ ومن أين سيأتي بمئة ليرة ذهبية رشادية بعد ثلاثة أيام ؟

   وراحت الهموم تتكوّم على كتفي الرجل وتتزاحم ،وراح يفكّر في الأمر في صحوه ومنامه، يفكّر بوجوب ردّ الأمانة لأهلها، ولكن كيف ؟ وهو لا يملك من المبلغ شيئاً !

   ومضى يومان وجاء الثالث، وهموم الدنيا كلها قد تلبّست الرجل ، ولم يعد يدري أنائم هو أم يقظان ، ولم يعد يدري أأكل أم لم يأكل ، بل ما كان يشعر بجوع أو عطش ، وقبيل فجر اليوم الثالث ، وما كادت عينه تغفو قليلا، حتى هبّ يستغفر الله ويشكره ، مصدّقاً ما رآه أثناء غفوته وغير مصدّق، فأعاد استغفاره وشكره لله ، وتمدّد من جديد ليغفو قليلا منتظراً الصباح ، لعلّ فرجاً من عند الله يريحه ، وللمرّة الثانية وبعدما غفت عينه قليلا، هبّ وهو يستغفر الله ويحمده ، مصدّقاً ما رآه  أثناء نومه وغير مصدّق ، وبعد قليل عاد للنوم من جديد فوجد الحلم نفسه للمرّة الثالثة ، فأفاق وجلس يفكّر فيما رآه ثلاث مرّات متتالية ، وكانت الصورة لا تزال ما ثلةً أمام عينيه ، كان قد شاهد رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام واقفاً أمامه وهو يخاطبه :

   اذهب إلى كنيسة "الشيبانيّ " ، وستجد هناك عابداً زاهداً هو فلان، فبلّغه سلامي وقل له رسول الله محمد يقرؤك السلام ،ويقول لك ،أعطني مئة ليرة ذهبية رشادية، لأؤدي الأمانة التي بذمّتي .

   وفكّر الرجل وفكّر فيما رأى، وحين سمع آذان الفجر ، قام وتوضأ وذهب فصلّى في المسجد منتظراً الصباح ، وقد قرّر أن يذهب حيث طلب منه الرسول الكريم أن يذهب ، فقد قيل أمامه غير مرّة ، أن رؤية الرسول في المنام تكون رؤية صحيحة ، لأن الشيطان لا يستطيع أن يتمثّل صورة الرسول الكريم .

   وانتظر الرجل حتى ارتفعت الشمس في كبد السماء، ومضى إلى كنيسة "الشيبانيّ "ليقابل العابد الزاهد كما طلب منه ، وهناك سأل عنه فدلوّه إلى غرفة ،وجد فيها شيخاً ثمانينياً، تغطّي لحيته البيضاء نصف صدره ، وهو يسبّح الله مقلّباً حباّت "سبحة " بين يديه ، فتقدّم منه وسلّم عليه وقال له :

رسول الله محمد يقرؤك السلام ، ويقول لك أعطني مئة ليرة رشادية لأدفع الأمانة التي بذمّتي .

ووضع العابد الزاهد يده قرب أذنه وصاح كمن لم يسمع شيئاً :

ماذا قلت ؟

ـ قلت رسول الله محمد عليه صلوات الله ، يقرؤك السلام ويقول لك أعطني مئة ليرة رشادية ، لأؤدي الأمانة التي بذمّتي .

ـ نعم ؟ ماذا قلت ؟

ـ قلت رسول الله محمد يقرؤك السلام ، ويقول لك أعطني مئة ليرة رشادية ، لأدفع الأمانة التي عليّ دفعها لصاحبها .

ـ نعم أعد ما قلت .

   والتفت الطالب نحو الباب يريد الخروج ، فهذا الذي جاء إليه طالباً الفرج، عجوزٌ أطرشٌ لا يسمع ، وهو لا يكاد يفهم ما يقوله ، وأيّ قولٍ إضافيّ لا معنى له .

ولكن وقبل أن يخرج الرجل طالب المال ، ناداه العابد الزاهد قائلا :

عد يا ولدي ولا تغادر ، فأنا سمعتك وأسمعك جيداً ، ولكني أستزيدك لأسمع قولك أن رسول الله محمد يقرؤني السلام ، فهذا أمر عظيم أفرحني بما لا يمكنك تصوّره ، و والله لو أعدت ما قلت عشر مرّات ، لأعطيتك عن كل مرّة مئة ليرة رشادية، فمن جاءك جاءني أيضاً يا أخي في الله .

قال طالب المال :

ياسيدي أنا لا أطلب غير مئة ليرة فقط ، وكل همّي أن أؤدّي الأمانة التي بذمّتي .

ـ  حبّاً وكرامة .قالها العابد الزاهد القسّيس في" كنيسة الشيبانيّ  "، ومدّ له يده بصرّة فيها ما طلب.

  ــــــــــــــ

الأسدي وعبدالناصر

 ( وتعريب أسماء القرى الحدودية شمال سورية )

    روى لي هذه القصّة الحكاية أو الحادثة ، المرحوم خير الدين الأسدي ، صاحب موسوعة حلب المقارنة، في عام 1968م وكنا معاً ندرّس في إعدادية الحكمة ، والتي كانت بجانب سينما  "أوغاريت "، والتي أزيلت الآن ليقام في مكانها بناء حديث .

   كنا جلوساً في غرفة المدرّسين ،وكانت بين يديه أوراقٌ من مؤلّفه الكبير،والذي كان ينقّح فيه باستمرار،مستفيداً مما يسمعه من أفواه الناس، من أسماء أماكن أو قرى أو غير ذلك ، وأذكر أن أحدهم دخل الغرفة وسأل عن زميلٍ من قريةٍ بعيدةٍ أثارت انتباهه، فرفع رأسه عن أوراقه وسأل عن موقعها ، وحين ذهب السائل قال لنا :

   إنّ أسماء قرانا ومدننا قديمةٌ جداً، وبعضها يعود لفجر التاريخ، إلى بدء استيطان الإنسان الأول، ولذلك يجب المحافظة على هذه الأسماء ، وعدم تبديلها أو تغييرها أو تحريفها أو غير ذلك مما يشوّهها، بل يجب الدفاع عنها إذا ما دعت الحاجة ، وقد فعلت ذلك أمام جمال عبد الناصر نفسه.

قلنا : وكيف كان ذلك يا أستاذنا الكريم ؟

قال :

   في صيف عام 1958م، وكانت الوحدة السورية المصرية لا تزال في أشهرها الأولى، دعاني السيد محافظ حلب، وأخبرني أنه قد تمّ تشكيل لجنة برئاستي، وتنحصر مهمة اللجنة هذه ،في تعريب أسماء القرى الواقعة على الحدود السورية التركية، فالكثير منه يحمل أسماء تركية تذكّرنا بالاحتلال العثماني.

قلت للمحافظ :

  أنا أرفض الاشتراك في لجنة هذه مهمّتها،إنّ هذا العمل عمل همجيّ بربريّ يجب أن لانقوم به نحن العرب ، فنحن بناة حضارة ، وتشويه التاريخ عملٌ يجب أن لا يقوم به المتحضّرون .

قال :

ولكن يا أستاذ خيرالدين ؛ الأتراك بدّلوا أسماء القرى الحدودية التي في جانبهم، والتي كانت عربية ، بأسماء تركيّة .

قلت :

    إذا كانوا هم  فعلوا ذلك مزوّرين التاريخ ، فنحن لسنا مثلهم ،وفي كل الأحوال هم ليسوا قدوة لنا .

وأضاف الأستاذ المحدّث فقال :

  وهنا أسقط في يد السيد المحافظ ، وشعر بالحرج فقال لي :

يا أستاذ خيرالدين ،هذه اللجنة مشكّلة بمرسوم من السيد رئيس الدولة، الرئيس جمال عبدالناصر،

فبماذا سأجيبه إن لم تعمل اللجنة ؟

قلت منهياً حيرته :

اترك الأمر لي، فأنا سأخاطبه بكتاب أرسله له ، وكل ما سأطلبه منك هو أن ترسل الكتاب باسمي أنا لا باسمك أنت ، وحين يأتي الجواب سنتصرّف .

قال المحافظ :

ليكن ما قلت .

   وقال الأسدي مكملا الحكاية : وهكذا أخذت ورقةً وقلماً من على طاولة السيد المحافظ، وجلست جانباً، وكتبت للرئيس جمال عبدالناصر رسالةً ، شرحت له فيها سبب عدم موافقتي على ترؤس اللجنة، وبيّنت له فيها مقدار همجيّة هذا العمل، وكم هو مشوّهٌ للتاريخ الذي علينا المحافظة عليه كأمة صاحبة حضارة، وطويت الكتاب وسلّمته للسيد المحافظ، والذي قام بدوره بإرساله للسيد رئيس الدولة جمال عبدالناصر .

وأكمل الأسديّ كلامه قائلا :

وها قد مضت عشر سنوات ، وانفصلت فيها سورية عن مصر ، ولم يأت الجواب بعد .

وإلى اللقاء في الحلقة الحادية عشرة ....... عبدو رشو 25/8/2006


هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟

إسمك :
المدينة :
عنوان التعليق :
التعليق :


 
 |    مشاهدة  ( 1 )   | 
http://www.tirejafrin.com/index.php?page=category&category_id=204&lang=ar&lang=ar