الفن والثقافة والتراث هوية الشعوب ... فلنحافظ على تراثنا الفلكلوري الكردي ..... لمتابعة آغاني الملاحم الكردية والتراثية اضغط هنا  ::::   أحبتي زوار موقع تيريج عفرين ..... قريباً سيعود الموقع إلى نشاطه السابق . ::::   آخر لقطات بعدسة تيريج عفرين .... شاهد الصور  ::::    شاهد الآن كليب تيريجن عفرين 4.... تيريج روج آفا - الجزء الرابع  ::::    الوديان في منطقة عفرين ... اقرأ المزيد  ::::    سياحة من تراثنا الشعبي ..... المضافات في منطقة عفرين ودورها الاجتماعي  ::::   أهلا بكم في موقع تيريج عفرين ....... Hûn bi xêr hatin :::: 
EN
Thu - 2 / May / 2024 - 18:19 pm
 
 
http://www.tirejafrin.com/site/bayram.htm
الزاوية الأدبية »
الحلقة الخامسة

حكايات من أواخر أيام الدولة العثمانية

أسرى  و قيم

   يقول التاريخ المنقول شفاهاً ، وربما كان مكتوباً :

   حين بدأت الدولة العثمانية بالتوسّع غرباً، وصلت إلى حدود " فيينا " عاصمة النمسا الحالية، بل وحاصرتها أيضاً، ثم بدأت بالتراجع بدءاً من ذلك الحصار .

   وفي أثناء تلك الحروب التي كانت تخلف قتلى وجرحى وأسرى، كانت توقّع أحياناً اتفاقيّات للهدنة، لحاجة الطرفين إلى استراحات، تتم فيها استعداداتٌ لحروب جديدة، قد تنشب بين الطرفين من جديد .

   وفي إحدى اتفاقيات الهدنة بين الطرف العثماني والطرف الأوربي النمساوي، جرى الاتفاق على تبادل الأسرى،وحدد لذلك موعد ومكان ، وكان المكان عند جسر على نهر  فاصلٍ بينهما .

وعند طرفي الجسر وقف الفريقان ، ومعهما ما عندهما من الأسرى، وبدأ التبادل بطريقة إطلاق أسيرٍ من كل طرف في الوقت نفسه، بحيث يصلان وسط الجسر معاً ، ثم يمضي كل أسيرٍ إلى أهله ، وراح الأسرى يعودون واحداً بعد واحد ، حتى مالت الشمس نحو المغيب، بل قاربت المغيب،ثم لم يجد الطرف العثماني عنده ما يبادل به ، بينما كان أسراهم عند الطرف النمساوي لايزالون متواجدين  .

   وجاء الخبر من الطرف النمساوي يقول إنهم على استعداد لأن يطلقوا سراح من بقي عندهم دون مقابل ، وهم سينفّذون ذلك فوراً ، وردّ الضابط العثماني بقوله :

 إنّه لايستطيع قبول العرض دون الرجوع إلى قيادته .

   وتم الاتصال بالقيادة ، والتي رفعت الأمر بدورها إلى العاصمة / استانبول / ، وجلس الجميع على طرفي النهر ، بل باتوا ليلتهم تلك وما بعدها من ليالٍ، منتظرين ورود جواب السلطان .

وأخيرا جاء الجواب يقول :

لانقبل ذلك ،لا نقبل أن يكون الرجل منا أرخص من الرجل منهم ، ولا نقبل أن يكون تسعون منهم يساوون مئةً منا، وعليكم أن تدفعوا دية من بقي من رجالنا عندهم، وبالثمن الذي يحددونه .

لاأقبل أبداً أن يسجّل التاريخ أن السلطان العثماني قبل أن يكون الرجل من دينه أرخص من الرجل من دين عدوّه .  

---------------------------------------

دنيا فانية
 

     في أيام الدولة العثمانية ، كان الوالي العثماني في كل ولاية ، هو قائد الجند فيها ،وكان من واجباته كقائدٍ للجند، أن يشرف على تدريب قوّاته ، وأن يجري مناورات تدريبيّة كل عام، للحفاظ على كفاءة قوّاته ، وأن تكون إحدى هذه المناورات التدريبيّة في الخريف من كل عام .

    ومن هنا تبدأ حكايتنا التي تقول :

   إنّ والي حلب قد أخرج قوّاته إلى شمالي  المدينة / إلى قرب بلدة حريتان الحالية / وهناك راح يشرف على تحرّكات فصائل وسرايا جنده ساعةً بساعة ، ويوماً بيوم .

   وفي عصر أحد الأيام ، خرج الوالي راكباً حصانه ، يحفّ به عدد من ضبّاطه وحرّاسه، ليستطلعوا المنطقة التي سيتحرّكون فيها غداً ، ووصلوا في سيرهم وبحثهم إلى قرب قرية       / حيّان / الحالية ، وهناك لاحظ الوالي وجود رجلٍ كأنه  يرقص " يدبك " في مكانه ، وبين الفينة والفينة، يترك مكانه ويجري ليدور بين حقل ذرة بيضاء ،ثم يعود ليتابع رقصه، ودفع الفضول الوالي ليقترب من الرجل مستطلعاً، وحين دنا منه وجد بيده مغزلا، وهو يغزل عليه صوفاً من كيس معلّقٍ برقبته، ولما دنا منه أكثر، سمعه يتمتم بكلمات غير مفهومة لانخفاض صوته .

   وناداه الوالي فاقترب الرجل خائفاً ، وسلّم على الوالي باحترام شديد ، فسأله الوالي :

قل لي يا هذا ، ما اسمك ؟

ـ اسمي عقيل سيدي .

ـ ولماذا ترقص يا عقيل ؟

ـ أنا لا أرقص يا سيدي ، أنا أدوس وأدقّ بقدميّ أعواد الكتان لأحوّلها إلى كتلة ناعمة، فقد قالت لي أمي " يا عقيل يا ابني دق " هالكتّانات" وخذها وبعها في سوق الجمعة في حلب، لتحصل على كم بارة* ثمنا لها " فقلت لنفسي  ولم لا ،ليكن عندنا بعض البارات في هذه الدنيا الفانية .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

البارة عملة عثمانية ، وهي من أجزاء الليرة المجيدية .
 

ـ وما هذا الذي تغزله بمغزلك يا عقيل ؟

ـ هو صوف يا مولاي ، فقد قالت لي أمي " يا عقيل يا ابني اغزل" هالصوفات" لأصنع لك منها جوز" جرابات " فقلت لنفسي ولم لا ، ليكن عندنا جوز" جرابات" في هذه الدنيا الفانية .

 وبماذا كنت تمتم يا عقيل ؟

ـ يا مولاي أنا لم أكن أتمتم ، أنا كنت أقرأ القرآن ،فقد قال لي جاري" علي" إنّه شاهد والدته المتوفاة في المنام، وطلب مني أن أقرأ لروحها سورة " يس " لأنه لايعرف قراءة القرآن ، وقال لي أنه سيعطيني ربع مجيدي لقاء ذلك ، فقلت لنفسي ولم لا ، ليكن عندنا ربع مجيدي في هذه الدنيا الفانية .

ـ ولماذا تذهب وتجري بين حقل الذرة الذي بجانبك بين الوقت والآخر يا عقيل ؟

ـ يا مولاي أنا لاأذهب لأجري هناك ، أنا أذهب لأطرد العصافير التي تأتي وتأكل الذرة ، فقد قال لي جاري" مصطفى" إنّه مضطرّ للنزول إلى حلب،وطلب مني أن أطرد العصافير عن  حقله ، وقال لي أنه سيعطيني نصف كيل من الذرة حين حصاده ودقّه ، فقلت لنفسي ولم لا، ليكن عندنا نصف كيل ذرة في هذه الدنيا الفانية .

ـ وأنت ما ذا تفعل هنا يا عقيل ؟

ـ يا سيدي ويا مولاي ، أنا بالأساس" ناطور" أحرس كرم العنب هذا ، فهو كرمنا .

قال الوالي لحراسه :

   اطرحوه أرضاً ، وارفعوا رجليه ، واضربوه عليها  " فلقة* " حتى يقول لكم ماذا كان سيفعل لو لم تكن هذه الدنيا فانية ؟

الفلقة : نوع من العقاب ويضرب المعاقب بهذه الطريقة على رجليه .

 ------------------------------

المحبّون

( الصدر الأعظم  و محبّوه )

     والصدر الأعظم رتبةٌ كانت في أيام الدولة العثمانية، وهي تساوي في أيامنا رتبة رئيس الوزراء . وحين كان " فريد باشا " صدراً أعظم، وكان فهيماً حكيماً ذا رأي وبصيرة ، كان يروى عنه ، أنه اقترح على السلطان عبد الحميد أن  يجعل اللغة العربية  لغةً رسميةً  للدولة ،وأن يُخرِج غير المسلمين جميعاً من أراضي الدولة،وقد روى لي هذا المرحوم خير الدين الأسدي عليه رحمة الله ،أيّام كنا نعمل في إعدادية الحكمة في حلب معاً كمدرسين ، وأضاف بأن الاقتراح الأول لم يوافق عليه حزب تركيا الفتاة " جان ترك" الطوراني " وأن الاقتراح الثاني لم يوافق عليه شيخ الإسلام،على اعتبار أن من  واجب  المسلمين حماية من تحت حكمهم لا طردهم ،وفي أيام  " فريد باشا "هذا جرت حكايتنا التي تقول :

   إنّ ابناً يافعاً لـ(فريد باشا )، سأله يوماً :

 أبي ؟ أنت محبوب جداً من أهل (استانبول) ،إنّهم يحبّونك حبّاً شديداً يا أبي !

ـ وكيف عرفت ذلك يا ولدي ؟

ـ من رؤيتي وسماعي لهم يا والدي ، فها نحن قد اقتربنا من المغيب، وقرب موعد الإفطار، ونحن في رمضان،  وبعد قليل سيأتونك فرادى وجماعات، معظم وجهاء العاصمة يأتون ليفطروا معك تاركين أهليهم وأولادهم ، وليس هذا فقط ، بل يصلّون خلفك صلاة المغرب والعشاء وصلاة التراويح أيضاً ، وبعضهم يظلّ ساهراً معك حتى وقت السحور، أما عن كلامهم فأنت تسمعهم كيف يتحدّثون أمامك بكل احترام وتقدير ،أفلا يدلّ كل هذا على مقدار حبّهم لك ؟

وأطرق (فريد باشا ) مفكّراً في حال ولده الذي غرّته المظاهر، والذي لا ينفذ إلى ما خلفها،ولده الذي يخدعه اللسان المعسول، ليوقعه في مطبّات قد تكون قاتلة،ولده الذي لم يسمع أو لم يفهم المثل القائل :

" ما أكثر أصحابي لما كان كرمي دبس، وما أقلّ أصحابي لما كرمي يبس "

أو بالقول العربي :

" بالطلعة كتروا الأحباب، وبالنزلة كلهم هربوا "

ولا بالقول الذي شاع حتى لم يبق من لم يسمعه :

" ماتت بقرة القاضي فشيّعها كل أهل المدينة ، ومات القاضي فلم يشيّعه أحد "

    تذكّر (فريد باشا ) كل ذلك بلحظات،وبلحظات قرّر أن يعطي ابنه درساً يعلّمه عدم الانخداع بالمظاهر، ولا تصديق معسول الكلام ممن لم يختبره وممن لم يجرّبه، وأن هؤلاء الذين يأتونه يومياً قبيل موعد الإفطار، ما هم إلا منافقون مراؤون بمعظمهم ، وهو يستقبلهم لأنه    كـ  " صدر أعظم " لا يريد أن يجعلهم أعداء له على الأقل ، لكل ذلك التفت الرّجل إلى ولده وقال له :

   أرجو أن تتواجد اليوم مساء عندي وحتى ما بعد صلاة التراويح، وسأريك عدد الذين يحبّونني من هؤلاء .

    وجاء المساء ،وكالعادة في كل يوم ، بدأ وجهاء (استانبول ) يتقاطرون على قصر الصدر الأعظم وينضمّون إلى مجلسه،وحين أذّن المؤذن لصلاة المغرب، كانوا قد بلغوا التسعين ، وكان الابن قد عدّهم عدّاً ، وهكذا صلّى الجميع خلف الصدر الأعظم ، وأفطروا على مائدته، ووقفوا ليصلّوا خلفه صلاة العشاء وصلاة التراويح ، ولكن الذي حدث أن" الصدر الأعظم"، حين أنهى صلاة العشاء ،ووقف ليبدأ صلاة التراويح، نظر فرأى ضوءاً قادماً من قصر (يلدز) قصر السلطان،وكانت هذه عادة تلك الأيام في الانتقال فوق مضيق البوسفور وبين جنباته، كانت المواصلات والاتصالات تتم بواسطة الزوارق ، وكان للسلطان عددٌ منها تحت إمرته، يستعملها كمراسيل لإيصال أوامره ، وهذا ما قصده (بيري باشا) حين قال مشيراً للضوء القادم وبصوت عالٍ ليسمعه الجميع :

 الله يعطينا خير هذا الضوء ؟ الله يبعد عنا الأخبار السيئة .

وسمع الجميع مقولته ، وسأل بعضهم مستفسرين :

خير يا مولانا ، ماذا هناك لتقول ما قلت ؟

وأراد الصدر الأعظم أن يهييء الأجواء لما خطّط له فأضاف :

 لقد تحرّك زورقٌ من عند قصر السلطان ، ها هو ضوء الزورق يأتي نحونا، فعساه يحمل خيراً لاشرّاً .

 قال الصدر الأعظم ذلك ، وأضاف :

 لنتابع صلاتنا ريثما يصل إلينا .

   وهكذا تابع الجميع الصلاة خلفه ، وما إن صلّوا ركعتين حتى كان الزورق قد وصل، فالمسافة لم تكن بعيدة بين القصرين،فأوقف الصدر الأعظم الصلاة بعد ما سلّم "تسليمة "انتهاء الركعتين، واستأذن الحضور، ونزل الدرجات المؤدية من القصر إلى المرسى الذي يقف عنده الزورق، فسلّم على الرجل الذي فيه، وأعطاه ليرتين ذهبيتين، كان قد وعده بهما حين طلب منه أن يقوم بما قام به ، إذ لم تكن هنالك أخبار أو ما يحزنون، ولكن الرّجل كان قد هيّأ درساً لابنه ليستفيد منه في قادمات أيامه .

    ورجع الرجل، الصدر الأعظم من عند الزورق وقد وضع قناعاً من الهم والحزن على وجهه، وعندما اقترب من الجمع راح يردد لنفسه :

 " أوامر مولانا السلطان على الرأس والعين ، منه الأمر ومنّا الطاعة .... أوامر مولانا السلطان على الرأس والعين ، منه .............

وفهم الوجهاء / محّبو الرجل والد الشاب اليافع / أن أمراً جللاً قد حدث ،وأن السلطان قد أصدر أمراً لم يُعجب الصدر الأعظم، ولكنه لا يرى بدّاً من الاستجابة ،ودفعهم الفضول للسؤال قائلين معاً :

 خير يا مولانا ، عسى أن يكون ما أتاكم خيراً ؟

وأجاب الرجل بكل هدوء :

 لقد نزع السلطان أختام الحكم مني ، هذا كل ما في الأمر ، والسلطان مولانا وآمرنا .

وسألوه من جديد :ولمن أعطى مولانا السلطان الأختام يا سيدنا ؟

وذكر لهم الرجل اسماً كان من منافسيه على المنصب منذ سنوات ، ثم أضاف :

 والآن دعونا من الحكم ومتاعب الحكم ،وهيا بنا لنكمل صلاتنا .

   ووقف الرجل وتابع الصلاة وخلفه الجمع ، ولكنهم ما إن بدأووا حتى راحوا يهمسون لبعضهم البعض  :

 هيا لنسرع ونبارك للصدر الأعظم الجديد ، هيا لنسرع ونبارك للصدر الأعظم الجديد .

    وبدؤوا ينسحبون من الصلاة واحداً بعد واحد ، بل ازداد المنسحبون وصاروا مثنى وثلاث ورباع ،وهكذا لم يبق خلف الرجل في صلاته، غير اثنين فقط من التسعين الذين عدّهم ولده عدّاً عند وقت الإفطار.

   وأنهى الرجل صلاته، ومضى إلى مجلسه اليومي فجلس ومعه الرجلان ،وحين استقرّ به المقام ، نادى ولده وقال له :

ـ هل رأيت عدد الذين يحبّونني يا ولدي ؟

ـ نعم يا والدي ، رأيت .

ـ إنهم هذان فقط ، فهل فهمت ؟

                                   ــــــــــــــ

/ مناسبة سيز/ أحمد أفندي

تقول الحكاية :

    كان في( استانبول) في أيام السلطان عبد الحميد خان ، رجل اسمه أحمد أفندي ، وأفندي ليس اسماً بل لقبٌ يلحق بالاسم  دلالةً على الاحترام والتقدير ، وهذا متّبع ولا يزال في معظم البلاد التي كانت تابعة للدولة العثمانية ،وتلحق الكلمة أو اللقب باسم الرجل كما نلحق نحن في هذه الأيام باسم الرجل كلمة أستاذ أو سيد .

    ونعود لأحمد أفندي هذا الذي اشتهر في ( استانبول ) كلها بهذا اللقب، والذي يعني من دون مناسبة، وذلك لأنه كان يتحدّث بالحديث الذي لا يناسب الموقف الذي هو فيه، بل يخالفه الاختلاف كله ،ولذلك صارت أحاديثه ومقولاته طرفاً ونوادر، يتحدّث بها الناس ويروونها لبعضهم بعضاً، وهكذا حتى سمع بنوادره وطرفه السلطان عبد الحميد نفسه، فاستدعاه وسأله عن أمره ، فذكر له ما يؤيّد ويؤكّد ما سمعه، ولما طلب منه السلطان أن يأتيه بما يشرح أمره ، أو بأمثلة من طرفه وحديثه الذي يقال عنه / مناسبة سيز/، أي  من دون مناسبة ، ردّ مجيباً السلطان :

 يا مولاي ما هكذا تجري الأمور، صحيح أني أنا/ مناسبة سيز/، ولكن ذلك لايكون هكذا وفي كل وقت ، يجب أن تكون هنالك مناسبة لأكون/ مناسبة سيز/ .

وسأل السلطان : وكيف سأعرف ذلك ؟

ـ تتركني هنا في القصر ريثما يأتي الوقت المناسب، فترى مني القول غير المناسب .

   وأمر السلطان بإبقائه في القصر، ومرّت أيام قليلة نسيه فيها السلطان ونسي أمره كله، فللسلطان مشاغله التي لاتنتهي،ثم جاءت الأخبار بنشوب الحرب في القفقاس بين جيوش السلطان وجيوش روسيا،وجاءت الأخبار تترى باندحار جيوش السلطان وارتدادها يوماً بعد يوم، وعقد السلطان مجلس حربٍ دائمٍ في القصر، وراح مع قادته يتابع الأخبار والأحوال ومسائل الإسناد والدعم بالمال والرجال والسلاح ساعةً بعد ساعة .

   ومرّت أيامٌ كثيرة ، خمسة عشر يوماً مرّت والسلطان لم يذق فيها طعم النوم إلا دقائق معدودة، وكذلك قادة أركان حربه، خمسة عشر يوماً لم يذوقوا فيها طعاماً إلا لقيمات، ولذلك بدأ التعب يظهر على الجميع ، ولم يعودوا يتحرّكون أو يتكلّمون إلا بما هو ضروري جداً .

   وفي اليوم الخامس عشر، وجد رجال القصر / مناسبة سيز / أحمد أفندي يروح ويجيء أمام مقرّ انعقاد مجلس الحرب وهو ساهمٌ مفكّر، مرّاتٍ كثيرة شاهدوه يروح ويجيء وهو في حالة التفكير وانشغال البال، ثم وبهدوءٍ شديدٍ، تقدّم من الحاجب الحارس الواقف على باب المجلس الحربي وقال له :

قل للسلطان أني أريد أن أراه .

   وكان الحاجب الحارس يعرف ما يجري خلف الباب، فقال له :

السلطان في انشغالٍ شديدٍ ، وهو غير مستعد لاستقبالك أو استقبال غيرك .

ـ ولكني أريد لأمر ضروريٍّ جداً ،قل له أنت ذلك ، إنه أمر ضروريٌّ جداً .

   واضطر الحاجب الحارس للدخول وإبلاغ السلطان برغبة أحمد أفندي هذا الـ/ مناسبة سيز / في مقابلته ، وعاد ليقول له : السلطان في شغلٍ عنك .

   وأصرّ أحمد أفندي على ضرورة مقابلة السلطان ، أصرّ مرّة بعد مرّة والحاجب يدخل ويخرج حاملا الأمر : السلطان مشغولٌ جداً .

   وتدخّل أحد ضبّاط السلطان، وطلب من السلطان أن يسمح له بالدخول عساه يحمل أخباراً عن الحرب والمعارك، وربما كان ما يحمله من معلوماتٍ مفيدة، وهكذا سمح له السلطان بالمثول أمامه، وحين مثل أمامه بادره السلطان سائلا :

هات يا أحمد أفندي ، ماذا وراءك ؟

وقال / مناسبة سيز / أحمد أفندي :

  جئت يا مولاي أسألكم ، هل كان والدكم المعظّم يعرف العزف على المزمار ؟؟؟

    ــــــــــــــ

القاضي بسم الله

  ( قاضي  حلب )

 تقول الحكاية :

  في أواخر أيام الدولة العثمانية،كانت الأمور قد وصلت إلى حالةٍ من الفساد، إلى درجة أنّ وظائف الدولة كانت تباع بيعاً، بما فيها وظيفة القضاء ، في هذه الفترة وتوضيحاً لما سبق سنذكر قصّة والي حلب " بسم الله "، وقد أطلق عليه الحلبيّون هذا اللقب ، لأنه كان إذا ما جلس في مجلس القضاء، أمسك "سبحته " وراح يردد جملة " بسم الله " مع كل حبّة تمرّ من بين أصابعه .  

    وكان هذا دأبه طوال العام، وكلما جلس مجلس القضاء، وكان هذا القاضي يسافر إلى العاصمة   " استانبول" مرّةً واحدةً كل عام ،ولاحظ مرافقوه أنه يردّد جملة " إنشاء الله " أثناء سفره ذهاباً إلى العاصمة،بدلاً من جملة "بسم الله "التي يردّدها في مجلس القضاء في حلب ،وإذا ما استقرّ به المقام أياماً في " استانبول " يقابل فيها مسؤولين وحكّاماً يحمل لهم الهدايا والأعطيات،ثم يودّع الجميع عائداً إلى حلب،كما لاحظ مرافقوه أنه أثناء عودته يردد جملة       " الحمد لله " حنى وصوله إلى حلب ، فإذا ما عاد إلى مجلسه في القضاء، عاد لسالف عهده،وراح يردّد جملة " بسم الله " .

   يوماً وفي سهرة ما بعد صلاة العشاء ، سأله أحد خلصائه عن جمله الثلاث هذه؟ ولماذا يردّدها هي لاغيرها ، فأجابه موضّحاً فقال :

   يا أخي عندما أسافر إلى العاصمة حاملا معي الهدايا والأعطيات والمبالغ التي عليّ دفعها للحكام والمسؤولين الكبار، أردّد جملة "إنشاء الله" متمنّياً على الله أن ييسّر أمري ، وأن يجعلهم يقبلون ما معي، وأن يبقوني في وظيفتي، فإذا ماتمّ لي ذلك، وعدت سالماً غانماً ، أردد جملة    " الحمد لله" شكراً لله وعرفاناً بجميله ، وهكذا أعود لمجلس القضاء قاضياً، بعدما أكون قد بذلت الكثير من الأموال، ولذلك حين أجلس للقضاء،أردّد جملة " بسم الله " لأذبح المتخاصمين لأستردّ ما دفعته ، وليس هذا فقط ، بل لأجمع ما سيعينني للعام القادم .

  ـــــــــــــ

 قاضي ديار بكر

( الذي يعضّ المتخاصمين )

    سمع المسؤولون في العاصمة " استانبول " أن قاضي" ديار" بكر يعضّ المتخاصمين الذين يتخاصمون عند ، فاستغربوا الأمر كثيراً ، وبخاصّة فالمعلومات التي لديهم تقول عنه ، أنه من خيرة القضاة،وأنه لايرتشي ولا يحابي ولا يساير أحداً ، بل ولا يهاب أحداً في الحق ماعدا الله ،

وهكذا قرّر المسؤولون إرسال مفتّش قضائيّ ليرى الأمر بعينه ، وهل صدقٌ ما سمعوه ؟ أم هو باطلٌ أشاعه الذين لايحبّون سيادة العدل، أو المتضرّرون من أحكامه .

    وسافر المفتّش العتيد إلى" ديار بكر"، وجلس إلى القاضي المذكور ، وسأله عن الأمر، فلم ينكر ذلك ولم ينفه بل أكّده، فاستغرب المفتِّش ذلك وسأله عن السبب ، فطلب منه أن يحضر مجلس قضائه في اليوم التالي، ليرى ويعرف السبب بنفسه .

   وهكذا كان ، وفي اليوم التالي جلس القاضي في مجلس قضائه ، وجلس المفتّش بين الناس دون أن يعرفه أحد، ليرى ويعرف ماذا يجري ، ولماذا يعضّ القاضي الناس المتخاصمين ؟

   وبدأت المحاكمة بمثول اثنين من المتخاصمين ،ولما سألهما القاضي عن دعواهما ؟ قال الأول:

 سيدي ، لي بذمّة هذا الرجل دين يأبى أن يوفيه .

ـ وكم لك بذمّته ؟

ـ لي بذمّته مئتا ليرة ذهبية .

والتفت القاضي إلى المدّعى عليه ، وسأله :

 هل صحيح ما يقوله هذا الرجل ؟

وردّ الرجل المدين :

نعم يا سيدي القاضي ، صحيح ما يقوله ؛ له دين عليّ مقداره مئتا ليرة ذهبية ، الحقّ حقّ       يا  سيدي.

ـ ولما لا تردّ له دينه ما دمت تعرف الحقّ من الباطل ؟

ـ لضيق ذات اليد يا سيدي ، لضيق ذات اليد ، فأنا لا أملك ما يساعدني على إيفاء ديني .

وتدخّل الدائن في الحديث فقال موجّها كلامه للقاضي :

سيدّي القاضي ، اسأله عن ممتلكاته .

وسأل القاضي الرجل المدين :

قل لي ياهذا ، كم رأساً من الأغنام تملك ؟

ـ ليس الكثير يا سيّدي ، ألفا رأس فقط .

ـ ومن الأبقار ؟

ـ أقل من ذلك بكثير يا سيّدي، أربعمئة رأس فقط .

ـ ومن أشجار الزيتون ؟

ـ ألفا شجرة فقط .

ـ ومن أشجار الفستق ؟

ـ ألف شجرة فقط .

ـ ومن أشجار البندق ؟

ـ ألف شجرة فقط .

وغير ذلك ؟

ـ القليل من الأرض التي أزرعها قمحاً وشعيراً وعدساً وغير ذلك .

ـ وما مقدار القليل هذا ؟

ـ ما يقارب المئتى هكتار يا سيّدي .

   وفكّر القاضي قليلا بعدما سمع ما سمع ، ثم قال للرجل المدين :

اسمع يا هذا، ما دمت رجلا تعرف الحق من الباطل كما تقول ، وما دمت معترفاً بدين هذا الرجل عليك ، فقد قررنا أن تدفع له دينه ، ولنخفّف الأمر عليك، سنجعلك تدفع الدين على دفعتين ، ولعامين ، كل عام تدفع له مئة ليرة ذهبية .

صاح الرجل المدين معترضاً :

 هذا كثير يا سيّدي ولا أستطيع دفعه في العام الواحد .

ـ إذن سنخفّف الأمر عليك ، ونجعلك تدفع دينك في أربعة أعوام ، خمسون ليرة كل عام .

ـ وهذا أيضا كثير يا سيّدي ولا أقدر عليه .

ـ إذن سنخفّف عليك أكثر ونجعلك تدفع الدين في ثماني سنوات ، كل سنة تدفع للرجل خمساً وعشرين ليرة .

ـ  وهذا أيضاً كثير يا سيّدي ولا أقدر عليه .

ـ إذن سنخفّف عليك أكثر، وسنقسّط المبلغ على عشرين سنة ، كل سنة تدفع للرجل عشر ليرات ، فهل رضيت ؟

ـ لا ياسيّدي، لم أرض، فالمبلغ كبير ولا أقدر على دفعه .

ـ إذن سنخفّف عليك أكثر، وسنقسّط المبلغ على أربعين سنة ، كل سنة تدفع للرجل خمس ليرات من دينه ، فهل أعجبك هذا ؟

ـ لا ياسيّدي لم يعجبني ، فالمبلغ كبير ولا أقدر على دفعه .

وقبل أن يتكلّم القاضي ، نهض المفتّش من بين الحضور، وتقدّم من منصّة القاضي وقال له :

أتقوم بعضّه ، أم أعضّه أنا ؟

  ـــــــــــــ

 خروف السلطان الذي لم يسمن

   ( نابي والسلطان عبد الحميد )

 تقول الحكاية :

   كان للسلطان "عبدالحميد خان" ، سلطان الدولة العثمانية المعروف، مستشار ونديم في الوقت نفسه،كان اسمه "نابي" وكان من أكراد " ديار بكر" ، وكان" نابي" هذا رجلا عاقلا فهيماً نبيهاً، وهذا هو معنى اسمه ، فـ" نبيه" تختصر في الكردية بـ"نابي " .

   وكان السلطان قد استدعاه بعدما سمع عنه الأحاديث الكثيرة التي تشيد بعقله الكبير، وبغزارة علومه الدينية ، وبآرائه الحكيمة ، وفتاويه التي تريح الناس،وقد رأى فيه السلطان كل ذلك بعدما قابله وسأله وحادثه، فاطمأنّ إليه وأبقاه عنده، وطلب منه عدم مفارقة مجلسه ، وهكذا كان .

   ويبدو أن " نابي " هذا، كان رجلا واعياً بأوضاع الدولة المتردّية ، راغباً بالمساهمة في إصلاح أحوالها ، لذا لازم مجلس السلطان، وراح يبدي له النصح والمشورة كلما لزم الأمر ، ولكن ومع مرور الأيام، أدرك أنه كمن ينفخ في قربة مبعوجة، وأن الفساد قد عشّش في أوصال الدولة بحيث لم يعد يفيدها أيّ علاج،لذا قرّر ترك السلطان ومجلسه ، والهرب بعيداً إلى جهة لا يعرفه فيها أحد، ليعتزل الناس هناك ، وليتفرّغ لعبادة الله والتسبيح بحمده .

   وهكذا ترك " استانبول" سرّاً ،ومضى إلى جهة لم يخبر عنها أحداً ،ومرّ يومٌ لم يشاهده فيه السلطان ، فقال لنفسه ( ربما كان له شأن خاصّ يقضيه ) ولكنه حين لم يجده في مجلسه في اليوم الثاني، ولا في اليوم الثالث، سأل عنه وطلب معرفة سبب غيابه ، وهل أصابه مكروه لا قدّر الله ، أم ماذا؟

    وجاء الخبر بعد البحث والتقصّي من أن لا أحد يعرف أين هو، هو غائب عن بيته منذ ثلاثة أيام ، ولم يخبر أحداً بالوجهة التي قصدها ، ولا المكان الذي ذهب إليه.

   وغضب السلطان غضباً شديداً،وهدّد أركان دولته بالويل والثبور وعظائم الأمور، إن لم يحضروا له " نابي ".

   ووقع الجميع في حيرة من أمرهم ، فمن أين سيحضرون للسلطان " نابي " وهم لايعرفون شيئاً عن المكان الذي هو فيه ، والدولة العثمانية واسعة الأرجاء، مترامية الأطراف .

   وراح أركان الدولة ورجالاتها يفكّرون في الأمر،وفي طريقة تهديهم إلى المكان الذي اختبأ فيه "نابي " لإحضاره للسلطان الغاضب لنيل رضاه .

   بعد أيام من التفكير المتواصل، جاء الصدر الأعظم وشيخ الإسلام إلى السلطان وقالا له :

لقد اهتدينا لطريقة توصلنا إلى " نابي " ، ونحتاج لمساعدتك لتنفيذها .

ـ وما هي ؟

ـ نعطي كل قرية من قرى السلطنة خروفا،ونطلب منهم أن يطعموه ويسقوه جيداً أربعين يوماً بالتمام والكمال ،ونعلن أننا سنعاقب كل قرية يسمن خروفها عقاباً قاسياً جداً ، وربما وصل العقاب إلى  قتل رجالها .

ـ وماذا وراء هذا ؟

ـ يا مولانا كل القرى ستسمن خرافها،إلا القرية التي يكون "نابي " مختبئاً فيها ، أو لاجئاً إليها .

   وأمر السلطان بالتنفيذ فوراً،ووزّعت الخراف مع الحرّاس والأوامر فوراً،وبين عشيّة وضحاها بات ناس السلطنة في همّ وغمّ كبيرين، إذ كيف يأكل خروف ويشرب أربعين يوماً على هواه ولا يسمن ؟

   وهكذا انتقل الهمّ والغمّ ذاك، إلى قريةٍ نائيةٍ من قرى جبال" كردستان" البعيدة ،فنقلوا همّهم وحزنهم ذاك، إلى درويش جاء وبنى له خيمة من الأغصان والأخشاب، في سفحٍ مشرفٍ على وادٍ قريبٍ من قريتهم ، وهو يقضي فيه أيامه ولياليه متعبّداً زاهداً، يعيش مما يحصل عليه من أشجار الجبل من طعامٍ خشن ،ومما يجود به الأهالي عليه من بعض طعامهم ، وقد أَنِسوا إليه، وراحوا يتردّدون عليه، ويستمعون لحديثه ووعظه،وراح هو ينصحهم ويهديهم أموردينهم ،وهكذا نشأت بين الطرفين علاقة حبٍّ واحترام،بل وصار ملجأً لهم حين الحاجة إلى رأي أو مشورة ،      وهكذا وصل إليه خوف أهل القرية من أمر الخروف ، فطمأنهم حين جاؤوا إليه لاجئين ، للخروج مما هم فيه ، طلب منهم أن يمسكوا بجرو ذئب من بين ثنايا الجبل ، وأن يربطوه أمام خروف السلطان ، وهو يضمن لهم أنه لن يسمن "أوقيّة " واحدة مهما أكل أو شرب، بل هو لن يستطيع أكلا أو شرباً مهما كان الطعام والشراب كثيراً أمامه .

   وهكذا وبسرعة أمسك أهل القرية بجرو ذئبٍ، وربطوه أمام الخروف، وراحوا ينتظرون حتى مرّت المهلة المحدّدة، وحين جاء رجال السلطان ووزنوا الخروف في الميزان ، ولما وجدوه لم يزدد وزناً ولا "أوقيّة "واحدة، أمسكوا برجال القرية وقالوا لهم:

 أخرجوا لنا " نابي " أو سنعاقبكم عقاباً شديداً .

    وذهل أهل القرية وخافوا، فهم لا يعرفون من " نابي " هذا ، وأوضحوا لرجال السلطان ذلك، وقالوا لهم أننا أخذنا الفكرة من درويشٍ زاهدٍ متعبّدٍ في خيمةٍ في سفح الجبل، وهم لا يعرفون من يكون .

    وهكذا ذهب الرجال إلى الخيمة التي يتعبّد فيها " نابي" وأعادوه للسلطان .

   ــــــــــــــــ

 (قلنا لك ما بتصير زلمة*)

 تقول الحكاية :

    إنّ رجلاً عاقلاً حكيماً وجيهاً في بلدته الواقعة في شمال سورية، كان له ولدٌ طائشٌ يرتكب الأخطاء، ويسيء للناس، ويتفوّه بأقوال تزعج الآخرين ، وكان هذا يغضب أباه فيعاتبه المرّة تلو المرّة دون فائدة ،حتى يئس من إصلاحه،وأطلق عليه حكمه – يا ابني أنت ما بتصير زلمة -  .

وكان الأب يكتفي بهذه الجملة كلما ارتكب ولده خطأً، أو أساء لأحد ، وهذا ما دفع الولد لترك البلدة والرحيل عنها إلى حيث لا يدري أحد .

    وطالت غيبة الولد حتى نسيه أهل البلدة جميعاً ، وحتى ظنّ الجميع أن والده قد نسيه أيضاً، لأنه كان يظهر جلَداً حين يأتي ذكره، أو حين لا يسمعونه يذكره ، ولكن الأب ما كان نسي ولده أبداً ، ولكنه ما كان يدري عنه شيئاً ، وهذا كان يحزّ في نفسه، ولكنه ما كان قادراً على فعل شيء .

   أما عن الولد، فكان قد رحل وتنقّل بين القرى والبلدات ،حتى قادته قدماه إلى العاصمة ، وهناك وجد فرصة ًسانحةً فانتسب إلى القوات العسكرية،ويبدو أنه قد أظهر قوّةً  وجلداً     كبيرين ،لأنه في سنواتٍ قليلةٍ صار صاحب رتبةٍ وأمرٍ ونهيٍ ، وعاماً بعد عام، راح صاحبنا يرتقي سلّم الرتب درجةً بعد درجة، حتى وصل إلى رتبة " الباشوية "، وهي أعلى رتبة في سلّم رتب القوّات العسكرية في ذلك الوقت ، وهي رتبة الولاة ومن فوقهم من رجال الدولة ، وهكذا وجد صاحبنا الذي صار" باشا" ، وجد نفسه والياً في مركز الولاية التي من أعمالها بلدة أبيه ، والذي ما كان نسي تقريعه له، ولا تأنيبه الدائم،ولا مقولته المشهورة – انت ما بتصير زلمة - .

   ويبدو أن الولد الذي صار" باشا" في حلب ، ـ  وكانت مركز الولاية التي فيها بلدة والده ـ كان في شوقٍ شديدٍ ليثبت لوالده خطأ آرائه وأحكامه ، وأنه قد أفلح في حياته ،فهاهو قد أصبح والياً ، وأين؟ في الولاية التي يستطيع فيها إصدار الأوامر حتى له وهو والده ، ولهذا وبعد أيام قليلة من دوامه في مركز الولاية، وبعدما انتهت أو تناقصت وفود المهنئين ،استدعى قائد شرطته

ـــــــــــــــــــ

·        الزلمة : كلمة تعني في شمال سورية الرجل الكامل

   وأمره قائلا : احضر لي فلانا بن فلان من القرية الفلانية . وما كان المقصود غير والده ،

 صاحب المقالة التي أرّقته عمره  وأراد  إبطالها ،  وهكذا أصدر قائد الشرطة أمره لرجلين من رجاله ، وأمرهما أن يحضرا له الرجل المطلوب من الوالي وبأسرع ما يمكنهما .

    وبسرعة انطلق الشرطيّان إلى بلدة الرجل المطلوب، وأيقظاه من نومه ، وربطا يديه خلف ظهره ، وساقاه أمامهما إلى مركز الولاية ،وهو لايدري لماذا، ولا كان الشرطيان يدريان ، وكذلك ما كان قائد الشرطة يدري عن  الأمر شيئاً، وهكذا سار الرجل الوجيه العاقل أمام الشرطيين بلباس النوم ، فهما لم يسمحا له أن يلبس ثيابه، لشدّة إطاعتهما للأوامر، سار يفكّر فيما يجري ، دون أن يعرف له سبباً ، ويقلّب الأمور والأسئلة في ذهنه دون أن يجد لها جواباً،      وهكذا وصل الرجل إلى مركز الولاية  بلباس النوم، حافياً موحل القدمين ، يرتجف من البرد ، فقد كان الوقت شتاءً ، وهكذا وبوضعه ذاك،انتظر ساعاتٍ ريثما حضر الوالي إلى القاعة التي يداوم فيها على أعماله ، فأدخل إليه الرجل بحالته تلك .

   وفي مكتب الوالي ، في القاعة التي يمارس فيها الولد " الباشا" سلطته ،والتي وقف فيها الوالد موحل القدمين بلباس النوم مقروراً، تقابل الاثنان بعد طول غياب ،  ووقف كل منهما يرقب الآخر .

   في البداية لم يعرف الوالد الولد ، ولكنه حين دقق النظر فيه عرفه .

وبدأ الولد الذي صار" باشا " الحديث باستعلاء فقال :

 كنت تقول لي ـ انت ما بتصير زلمة ـ ها قد أصبحت والياً !

ردّ الأب العاقل الحكيم بهدوء، وهو ينظر إلى ولده الذي صار والياً، وقال له :

ابني أنا ما قلت لك أنك لن تصير والياً ، أنا قلت لك ـ ما بتصير زلمة ـ  وما صرت زلمة ، فلو كنت زلمة ما كنت أحضرت أباك بهذه الطريقة  .

 ــــــــــــــ

أين المسلمون …. هل انتهوا

  تقول الحكاية :

   إنّ الأمور كانت قد ساءت كثيراً في أواخر أيام الدولة العثمانية ، وأن الفساد والرّشوة كانتا قد عمّتا ، بل وانتشر اللصوص وقطّاع الطرق في كل مكان ،أما في مركز الولاية ، في          ـ استانبول ـ العاصمة ، فكان جنود الدولة ، ـ الإنكشارية ـ  يسطون على الناس ويأخذون أموالهم عنوة ، وبخاصّة في الليل وبعد صلاة العشاء ، حين يأوي الناس إلى بيوتهم ،إذ يقلّ المارّة، ولا يشاهد ما يحدث إلا القلّة ،ولهذا صار الناس يأوون إلى بيوتهم ما إن يحلّ المساء، فالخوف من الضرب والسلب كانا كبيرين .

   في هذه الأجواء حدث أن تأخّر أحدهم في المسجد بعد صلاة العشاء قليلا، وحين خرج يلفّ نفسه في عباءته اتقاء البرد ،لم يكن أحد في الشارع الذي يسير فيه، ولا في غيره من الشوارع ، وهكذا سار الرجل يلفّ نفسه ، سار سريعاً يريد بيته ، ولكنه فوجيء بثلاثة رجالٍ من           ـ الإنكشارية ـ يوقفونه ويمسكون به من أطرافه، طالبين منه أن يستسلم لهم ليفتّشوه ويسلبوا ما معه من مال .

   ويبدو أن الرجل كان يمتلك بعض الليرات ـ المجيدية ـ وكانت العملة المتداولة ، وكانت ذات قيمة كبيرة،لذا امتنع الرجل عن الاستسلام لهم، وراح يقاومهم رافضاً إعطاءهم ما معه،وهذا ما أغضب الجنود الثلاثة، فانهالوا عليه ضرباً ولكماً، يريدون منه سرعة الاستسلام،ولكن الرجل لم يستسلم لهم رغم ماكان يصيبه من الضرب واللكم، وراح يصيح مستنجداً مستغيثاً : يا ناس ،    يا عالم ، يا مسلمون أنجدوني ، أنقذوني …….

   وكان هذا سبباً إضافيّاً لينهال عليه الثلاثة بالضرب واللكم أكثر وأشدّ، وكان هذا ما سبّب له ألماً أشدّ، ولكنه لم يستسلم رغم ذلك ، بل وراح يصيح مستنجداً بصوت أعلى :

يا مسلمون …. يا أهل النخوة والمروءة ، أنجدوني ، اللصوص يريدون سلبي مالي ، يا مسلمون … يا أهل النخوة …..

   وهكذا ظلّ الرجل يصيح ولا من مجيب ، وكان أحد الناس في بيته المشرف على ساحة الجريمة يسمع ما يجري، ولكنه لايستطيع التدخّل خوفاً من أن يصيبه ما يصيب الرجل ، فلما اشتدّ الرجل في صياحه ومناداته ـ أين المسلمون .. أين أهل النخوة .. هل انتهوا جميعا ؟

قام الرجل السامع إلى نافذة بيته المطلّة على الشارع ، ففتحها قليلا وأجاب الرجل المنادي السائل:

أين المسلمون ؟… أين أهل النخوة ؟ … هل انتهوا جميعا ؟…

أجابه بهدوء :

لا ، لا ، لم ينتهوا ، هنالك الكثيرون منهم ، ولكنهم لا يقدرون على فعل شيء .

ـــــــــــــــ

العاصي  الوحيد ؟

   تقول حكايتنا الجديدة   :

   إنّ الناس ونتيجة للأجواء التي سادت حياتهم والتي ذكرنا بعضها فيما سبق من حكايات ،قد أصابهم اليأس والقنوط، وما عاد لهم أمل في الإصلاح أو انتظام الأمور ،فانقسم الناس العقلاء قسمين يجمع بينهما اليأس، ويفرّق بينهما التصرّف تجاهه ، فقسم انصرف عن الدنيا وما فيها إلى التعبّد والتصوّف،لا يريد غير سفر مريح إلى الآخرة وإقامة هنيّة فيها ، ما دام قد فقدهما في الأرض، في هذه الحياة الدنيا ، والقسم الآخر ترك هذه الدنيا وأمورها أيضاً ، ولكنه ظلّ فيها، إذ راح يعبّ المشروبات الكحولية عبّاً حتى السكر، لينسى ما وصلت إليه الأمور .

    ونتيجة لحالة السطو والسلب والنهب،والتي كانت تمارس على الناس بعيد وقت صلاة العشاء، وخوفاً من أن يظهر البعض أنهم يعاقرون الخمرة ، كان كثيرٌ من القسم الثاني يمارسون الشرب سرّاً، إذ كان يحضر المرء شرابه معه إلى البيت، ليشربه بعد أن يغلق عليه بابه ، ومن هنا تبدأ حكايتنا الجديدة التي تقول:

   إنّ أحدهم اشترى زجاجة خمر من محل لبيع المشروبات ، ووضعها تحت إبطه، ولفّ نفسه بعباءته، ومضى يحثّ الخطا إلى بيته ليمارس طقسه ، وكان الوقت شتاءً، والمطر منهمراً ، والرجل يسير حثيثاً بجانب الجدران اتقاء المطر المنهمر،وفجأة برق برقٌ ساطعٌ، ودوّى رعدٌ قاصفٌ، أرعب الرجل فارتعد خوفاً ، وهذا ما سبّب سقوط زجاجة الخمر من تحت إبطه، وارتطامها بأرض الشارع  وانكسارها .

    جرى كل ذلك فجأةً ، ودون  إرادة الرجل الذي ما إن استعاد وعيه ، حتى رفع يديه إلى السماء ، ونادى ربّه قائلاً :

ياربّ ، أخفتني وكسرت زجاجتي ، فهل أنا المخطيء الوحيد لتحاسبني ؟ ألم تر غيري من المفسدين وهم يملؤون الأرض ؟

سكت الرجل قليلا بعدما استعاد وعيه ونفسه ، ومضى إلى بيته وهو يردّد :

استغفر الله العظيم … استغفر الله العظيم …

 ـــــــــــــــ

قاضٍ أمرد  ! و والٍ ث !

   تقول الحكاية :

   إنّ حلاقاً أمرد ماجناً، كان يعيش في مدينة كبيرة ـ ولتكن مدينة حلب ـ ما دمنا في شمال سورية ،وكان قد جعل محلّ الحلاقة الذي يعمل فيه، مكاناً للّهو والمجون ، يتردّد عليه فيه الماجنون وطالبوا المتعة واللّهو، فيأتونه لقصّ شعورهم وحلاقة لحاهم ظاهراً، ولينالوا مأربهم من الحلّاق الأمرد الماجن باطناً .

   ومرّت الأيام على الحلاق الأمرد المذكور، وتقدّمت به السن، فترهّل جسمه، وظهرت التجاعيد على وجهه، فلم يعد مرغوباً من الماجنين وطلاب المتعة، وما عادوا يرتادون محلّه حتى لقصّ شعورهم .

   وجلس حلاّقنا مهموماً يفكّر ويفكّر، باحثاً عن طريقة تعيد إليه حياة أيامه السابقة،وهداه تفكيره    الطويل إلى حلّ شيطاني أسرع لتنفيذه فوراً، إذ قام وبحث عن غلامٍ مخنّثٍ في أرجاء المدينة كلها،وساقته قدماه وقدره فوجد غلاماً مخنّثاً وسيماً، يتثنّى في مشيته كالغانيات، فطلبه من أهله ليعلّمه مهنة الحلاقة، ودفع لهم مالا، ومنّاهم بمستقبلٍ باهرٍ لابنهم، وأنه  سيجعله شريكاً له في المحل ومنذ اليوم الأول .

   وهكذا بدأ الغلام المخنّث الوسيم يداوم في محل الحلاقة العائد للأمرد الماجن، وسرعان ما علم بالخبر روّاد المحل السابقون، فعادوا إليه واحداً بعد واحد، وقد أعجبوا بالغلام المخنّث الوسيم، وطالبوا الحلاّق الأمرد بوصاله، باذلين له ما يريد من أموال ،وكان هذا الإعجاب ما ينتظره الأمرد، ولذا قال لهم جواباً على طلبهم :

أنا وهذا الغلام شريكان في المحلّ وفي كل شيء، فمن أراد وصاله عليه وصالي قبله .

   وهكذا راحت الأمور تجري ، وعادت حال الحلاّق إلى ما كانت عليه ،وعاش راضياً بما يجري، إلى أن جاء يوم مرّ فيه الملك ووزيره على المحل ليقصّا شعرهما ، وليشذّبا لحيتهما، فقد كانا يتجوّلان خفية، ليطّلعا على أحوال رعيتهما، كما كان يفعل الملوك والسلاطين فيما مضى من الأيام ،وحين قام الحلاّق الأمرد بما طلباه وهو لا يدري من هما ، وحين رأيا الغلام المخنّث الذي يتثنّى كالغانيات ، أعجب به الملك ـ ملك تلك البلاد ـ فطلبه من الحلاّق بعدما عرّفه بنفسه .

   وشعر الحلاّق الأمرد بالمصيبة تنزل عليه، وأنه سيفقد كل شيء بفقده للغلام ، فصارح الملك بالأمر،وشرح له ما هو فيه،وأنه سيقضي عليه قضاءً مبرماً، إن هو أصرّ على أخذ الغلام معه .

   ولكن الملك كان مصرّاً على ما طلب، وليرضى الحلاّق قال له آمراً :

قد عيّنتك قاضياً لهذه المدينة ، وهذا سيساعدك على تدبّر أمورك ، لأني سآخذ الغلام معي .

   ومضى الملك بالغلام إلى قصره، وظلّ الحلاّق قاضياً في المدينة يقضي فيها على هواه،والناس يقاسون منه ما يقاسون ،وعاش الغلام في القصر مع الملك يخدمه ويقدّم له ما يريد سنواتٍ عديدة ، غير عالم بما جرى لمعلّمه الحلاّق ،ولا لأهل المدينة وما يلاقونه على يديه .

   وهكذا وبعد سنواتٍ من حياة الغلام في قصر الملك ، رأى الملك أن الغلام قد كبر ونمت لحيته بعد شاربيه، فرغب عنه وعما كان يقضيه معه من أوقات، وقرّر إبعاده بعد مكافأته، تقديراً لما قدّمه له ، وهكذا أصدر أمراً بتعيينه والياً على المدينة التي جاء منها ، ولتكن" حلب" كما قلنا .

    وسمع أهل المدينة وحكّامها وموظّفوها بعزل واليهم، وتعيين والٍ جديدٍ عليهم ،فما اهتمّوا برحيل الذي مضى، واهتمّوا كل الاهتمام بالذي جاء، فاستقبلوه خارج المدينة بالأهازيج والدفوف، وساروا خلفه في موكبٍ طويلٍ حتى مقرّ حكمه، ولم ينصرفوا إلا بعد تقديم التهاني له غير مرّة، بعد تقديم  فروض الطاعة والاحترام له .

    وكان من المستقبلين قاضي المدينة، الذي لم يكن غير الحلاّق الأمرد الذي بدأنا به حكايتنا ، والذي فرح حين وجد أنّ الوالي الجديد ليس غير غلامه المخنّث  ، لذلك ظلّ بجانبه يستقبل معه المهنّئين والمباركين ومقدّمي فروض الطاعة الوقت كله ، بل ظلّ معه بعدما ذهب الناس جميعاً، ليظهر له فرحه وسروره بما وصلا إليه من مكانة معا .

   وهكذا وبعدما انصرف الجميع، التفت القاضي إلى الوالي ليبارك له أيضاً ، فوجد دموعه تسيل على خدّيه وهو يبكي بصمت ، فاستغرب أمره وسأله مستفسراً :

لم البكاء يا مولاي وقد وصلنا إلى ما وصلنا إليه من مكانة؟ وهل هناك أفضل مما وصلنا إليه ؟

تنهّد الوالي بحرقة شديدة ، وقال موضّحاً :

أنا لا أبكي على حالنا ، أنا أبكي على حال الناس الذين سيعيشون تحت حكم قاض أمرد ماجن ، ووال مخنّث كالغانيات !

 ــــــــــــــ

 دائن   و  مدين

   وحكايتنا الجديدة تأتي تتمة للصور السابقة ، وهي تقول :

   إنّ رجلاً كان له دين على رجلٍ آخر في قريةٍ أخرى غير قريته ، وكان المدين يماطل الدائن كثيراً ويؤجله مرّةً بعد مرّة ، وكلما جاءه مطالباً بدينه،وكان المدين لا يكفّ عن المطالبة بحقّه فيذهب إلى قرية المدين مرّة أو مرّتين في العام، ليطالبه بما له عليه ، فلا يجد غير الاستقبال الحسن، والوعود المخملية، وطلب الاستمهال في كل مرّة .

   وكان المدين يتحمّل ذلك بصبرٍ شديدٍ ،مفضّلاً ذلك على اللجوء إلى المحاكم ، لأن اللجوء إلى المحاكم كان يعني الضياع في متاهاتٍ كثيرة، وكان يعني فيما يعنيه ضياع مالٍ آخر، غير الذي يكاد يضيع ، والذي لم يبق منه غير الأمل بالتحصيل،والذي قد يحصل وقد لا يحصل .

    ويوما ذهب الرجل إلى قرية المدين ، ودقّ عليه الباب ليطالبه بالدين من جديد،ففتح له الباب ابن الرجل المدين، واستقبله استقبالا حسناً ورحّب به، وكان هذا ما دفع المدين ليفاتح الولد بالأمر وليشكو إليه مماطلة والده ، وما كان يدري أن الولد تربية أبيه، أو ربما كان يدري، ولكنه كان يمنّي نفسه .

وهكذا استمع الولد لشكوى الرجل المدين باهتمام، وقال له بعدما توقّف عن الكلام :

اسمع يا عمّ ،انظر إلى سفح ذلك الجبل الذي يبدو غير بعيد عن قريتنا ، هل تراه ؟

ـ نعم أراه ، ما دخله بكلامنا ؟

ـ نحن يا عمّ سنقوم بقطع الغابة التي تغطيه، وسنزرع أرضه زيتوناً وفستقاً ،وحين ينمو الزيتون والفستق، وحين تكبر أشجارهما وتثمر،وحين نبيع ثمرهما ، سنوفيك دينك إن شاء الله .

ـ أشكرك يا ولدي على وعدك هذا،وعلى الأقل قد أرحتني من المجيء إلى قريتكم  والعودة منها حتى ذلك الوقت .

   قالها الرجل المدين ومضى ، وجلس الولد منتظراً قدوم أبيه، ليبلغه ما قال للدائن الذي لايكفّ عن مطالبتهم بدينه، ظانّاً أن والده سيفرح بما فعل ،ولكن الوالد حين عاد وسمع مقولة ابنه ، غضب كثيراً وقال له لاعناً :

لا عافاك الله ، لقد خيّبت أملى فيك،فقد وفيته دينه دون أن تدري .

 

ـ ولم يا أبي ؟ ألم أبعده سنوات كثيرة ؟

ـ يا بنيّ تحديد الموعد يعني الوفاء بالدين ، الشطارة في المماطلة دون تحديد المواعيد .

 ــــــــــــــ

 بكري مصطفى

 ( صدراً أعظم )

    وحكايتنا هذه حدثت أيضاً في أواخر أيام الدولة العثمانية ، والتي عرضنا بعض حالات التردّي التي كانت قد وصلت إليها الكثير من أمورها ، وكنا قد بيّنّا أن الذين كان عندهم بعض الأمل في إصلاح الأمور، وعودة أحوال الدولة إلى النهوض من جديد ، ممن يشتغلون بالهمّ العام ، قلنا إنّ أولئك قد فقدوا كل أمل ، ولذلك انقسموا إلى قسمين ، قسمٌ انصرف إلى الزهد والتعبّد والانشغال بأمور الآخرة ، تاركاً الدنيا بما فيها ،وقسمٌ راح يعاقر الخمرة ليسكر ويغيب عن الدنيا،و ما فيها أيضاً .

   وكان صاحب حكايتنا السيد " بكري مصطفى " من اتباع القسم الثاني ، وكان قبل ذلك معروفاً في العاصمة " استانبول " بعقله الراجح ،وبآرائه السديدة، وكان من الرجال الذين يمكن الاعتماد عيهم في بناء الدول ، الدول التي تريد البناء، لا الدول التي يسيطر عليها الفاسدون المفسدون .

   وهكذا أصبح " بكري مصطفى" معروفاً في العاصمة كلها، بشربه الخمرة ، بل وبسقوطه مخموراً في الشوارع، ونومه هناك حتى الصباح، وأنه لا يكتفي ولا يشبع من شرب الخمرة .

    ويوماً جاء من أخبر السلطان أن العسكر الانكشارية قد قلبوا ( حلل الطبخ )، وكان هذا إشعاراً منهم بأنهم قد أعلنوا العصيان والتمرّد ، ولما سأل السلطان عن سبب ثورتهم هذه ؟ قالوا له :

إنهم يريدون تغيير" الصدر الأعظم " والصدر الأعظم يساوي في هذه الأيام رئيس وزارة .

   وعندما سمع السلطان بطلب الانكشارية غضب، وألقى بأختام السلطنة، وأعلن تخلّيه عن الحكم ، وليقم الانكشارية حاكماً سلطاناً غيره .

   وسمع قادة الانكشارية بما قاله السلطان، فخافوا وحسبوا للأمر حسابه ، فهم يحكمون باسمه ، وهم يحسبون ردّة فعل الناس إن علموا بمقولة السلطان ، لذا أسرعوا إليه ورجوه أن لايقدم على ما قاله ، وبيّنوا له أنهم تحت إمرته ورهن إشارته ،فقال لهم :

لقد مللت منكم ومن " تمرّداتكم " ، تفرضون عليّ " صدراً أعظم " ثم تعزلونه وتقتلونه بعد     أيام ،وما دمتم تعيّنون وتعزلون، فلماذا أتحمّل أنا وزر أعمالكم ؟

    وألحّ عليه قادة الانكشارية كثيراً راجين أن يعدل عن قراره ، وله ما يريد ، فشرط عليهم أن يقوم هو بتعيين " الصدر الأعظم "، فوافقوه على أمل أن يعزلوا من عيّن بعد أيام، ليعيدوا سيرتهم التي لا يستطيعون التخلّي عنها .

    وهكذا أعلن السلطان أنه يعيّن " بكري مصطفى" صدراً أعظم ، وكان هذا مفاجأةً للجميع بل ولاحتجاجهم أيضاً ، ولكن السلطان أصرّ على ما قال ، وهكذا جيء بـ "بكري مصطفى" وقيل له لقد أصبحت "صدراً أعظم " بفرمان من السلطان ، فاعترض رافضاً، ولكنه قبل حين هدّد بالقتل، واشترط لقبوله أن يأتوه بكل ميّتٍ من العاصمة ليراه قبل دفنه .

   ووافق القادة الانكشارية مكرهين ، ظانّين أنه سيفرض على أهل الميت ضريبة جديدة ،     ما خطرت على بالهم وهم الذين برعوا في اختراع الضرائب .

    وهكذا أصبح " بكري مصطفى" صدراً أعظم" ، وانتقل إلى" الباب العالي" وهو القصر الذي يقيم فيه ، ويحكم منه الصدر الأعظم ،وهكذا وللشرط الذي شرطه الصدر الأعظم الجديد، جيء بأول ميّتٍ ليراه من أمر بذلك ، وهكذا نزل الصدر الأعظم " بكري مصطفى" درجات قصر الباب العالي حتى وصل إلى نعش الميّت ، وبهدوء فتح الكفن الذي يغلّف الميّت من عند رأسه ، ثم انحنى عليه وهمس في أذنه بكلمات ، ثم رفع رأسه وقال لأهله خذوه فادفنوه .

    واستغرب الحضور الأمر ، وكان أكثر الحضور استغراباً  حرّاس القصر من جند الانكشارية الذين نقلوا لأسيادهم ما رأوه .

   وهكذا صار" بكري مصطفى" يفعل مع كل ميّتٍ يأتون به إليه ،وهكذا صار قادة الانكشارية يزدادون فضولا ورغبةً لمعرفة ما يجري وما يقوله الصدر الأعظم للميّت قبل دفنه ، وبعد تفكيرٍ وتفكيرٍ، اهتدوا إلى طريقة تمكّنهم من معرفة ما يقوله "الصدر الأعظم "، فوضعوا له رجلا حيّاٍ في نعش ، وجاؤوا به إليه كميّتٍ ليراه قبل دفنه ،وكعادته مع كل ميّت نزل الصدر الأعظم إليه وفتح الكفن من عند رأسه ، ثم انحنى عليه وهمس في أذنه قائلا :

يا مسلم ، أنت تنتقل الآن من دار الباطل والفساد إلى دار الحق والعدل ، وهناك ستجد الرسول المصطفى عليه الصلاة والسلام ، وستجد الصحابة الكرام أيضاً ، وسيأتيك الجميع ليسألوك عن حال أمّتهم ، أمّة الإسلام ، فلا تكثر الشرح والتفصيل ، فقط قل لهم إنّ " بكري مصطفى" قد صار" صدراً أعظم " ، وهم سيفهمون كل شيء من تلقاء أنفسهم .

 ــــــــــــــ

 ذكريات من " جناق قلعة "

    قال جدّي يحدّث من حوله ، وكنت في حلقة المستمعين صغيراً لا أعرف غير الاستماع ورسم الصور في مخيّلتي الصغيرة عما أسمع ، تلك المخيّلة التي كانت تتشكّل من حيث لا أدري .

  وجدّي " علي أفندي " كما كان يناديه أهل قريتنا ، جدّي هذا كان " جاويشاً " في الجيش العثماني ـ وهي رتبة تساوي رتبة " رقيب " من رتب الأيام هذه ـ في الفرقة التي قاتلت في معركة " جناق قلعة " والتي صمدت رغم خسائرها التي بلغت أكثر من ثلاثمئة ألف رجل ، مجبرةً قوات الحلفاء المهاجمة على التراجع والانسحاب ، وكانت هذه الفرقة عربية و قوامها الجند القادم من بلاد الشام تحديداً ، وكل هذا عرفته فيما بعد .

 و " جناق قلعة " موقع على البحر الفاصل بين آسيا الصغرى ـ تركيا حالياً ـ واليونان ، والواصل بين البحر المتوسط والبحر الأسود ، وهو أي هذا البحر ممرٌّ إجباريّ للسفن في طريقها بين البحرين ، وتقع " اسطنبول على طرفه الشمالي ، وكانت عاصمة الدولة العثمانية آنذاك .

   وأعود لجدّي الذي كان جالساً قرب موقد الشتاء يحدّثنا عن تلك الموقعة الرهيبة ، وأسمعه يقول :

   كنت آمراً لسرية رماة رشاشات مؤلفة من ثلاث رشاشات وطواقمها ، كنا بحدود ثلاثين رجل ، وقد كلفت بحماية وادٍ مشرفٍ على السهل الساحلي الذي يفصلنا عن البحر ، وقد قدّر قادتنا أنه طريق محتمل لهجوم قوات الأعداء بعد الرمي الكثيف الذي كانوا يمطروننا به من مدافع سفنهم الحربية ، وكان ذلك الرمي يوقع بصفوفنا خسائر كبيرة ، وكانت جثث قتلانا تظلّ في العراء أياماً لا نقدر على دفنها من شدّة القصف ذاك ، ويتنهّد جدّي ويضيف ـ صدّقوني يا شباب كانت جثث قتلانا جثث شهداء كرام ، ما كنا نشم منها رائحة كريهة حين كنا نقوم بدفنها بعد أيام من استشهادها ، حين كانت الفرصة تسمح لنا بدفنهم ـ ويعود جدّي ليكمل حديثه الذي كان قد بدأه ، فيضيف : ولكننا كنا نؤمّن ما يلزمنا من قوات ورجال من الاحتياطي الذي كان موجوداً عند قيادتنا ، وقد صدق ما توقّعه قادتنا ، إذ شاهدنا الأعداء ينزلون من سفنهم بعد قصف عنيف استمر أياما ، شاهدناهم ينزلون ويبدؤون بالتقدم نحو مواقعنا ، وظللنا ساكنين حتى صاروا في مرمى أسلحتنا ، وبسرعة المتألمين أمطرناهم بنار حامية حصدتهم حصدا ، وقد فوجؤوا بما جرى فانسحبوا مذعورين إلى سفنهم ، أو انسحب من بقي منهم وما كان بقي منهم إلا القليل ، وقد دفعتهم خسارتهم هذه ليمطروننا بسيل من قذائفهم من جديد ، ومن جديد راحت مدافع سفنهم تقصفنا ليل نهار ، لتوقع بنا خسائر كبيرة جدا .

   بعد القصف العنيف الجديد الذي استمرّ أياما ، نزلوا للبرّ من جديد وبدؤوا زحفا جديدا على مواقعنا ، ومن جديد أمطرناهم بنار حامية حين صاروا في مرمى أسلحتنا موقعين بهم خسائر كبيرة جديدة .

   جرى هذه الأمر مرتين تاليتين ، وقد هداني تفكيري إلى تكليف رماة رشاش واحد من رشاشاتي الثلاث بالتمركز خلفنا ، بحيث لن يستطيع العدو الالتفاف علينا إذا ما فكر بذلك، فقد قدّرت أنه ربما فكر في ذلك من شدة ما أوقعنا به من خسائر ، وما أفشلنا له من خطط ، وقد صدق ما توقعته إذ سمعت صوت رمي رشاشنا كثيفا يأتينا في منتصف الليل ، ولما أسرعنا لنجدتهم ، وجدناهم يجمعون الجرحى والأسرى من قوّة عدوّة هاجمتهم، وقد عرفنا منهم أنهم كلفوا بتدمير موقعنا الذي أوقع بهم الخسائر الكبيرة، وبعد استجواب بسيط أرسلناهم مع حراسة مشددة للقيادة .

   مرّ على هذا الأمر ثلاثة أيام ، وفي الليلة الرابعة ، وكانت ليلة مقمرة ، جاء من أعلمنا أن " الآغا " قائد فرقتنا سيزورنا ، وعند منتصف الليل جاء يرافقه حرّاسه ، فاستقبلناه استقبالا حسنا ، وقد أظهر لنا الكثير من الودّ والمحبة ، وجلس بيننا كواحد منا ، ناقلا لنا تحيات القيادة وتقديرها لجهودنا ، ثم وزّع علينا " نياشين " ترقيات لبعضنا ، وقد رفّعت يومئذ فصرت " باش جاويش " أي رقيب أول ، كما قدم لنا بعض الهدايا الصغيرة ، وطعاماً ساخنا ما كنا ذقناه منذ زمن يمتد لما قبل المعركة هذه ، وقد جعلنا ذلك نشعر بالفخر والاعتزاز  ، ورحنا نستمع إلى حديثه باهتمام وهو يحدثنا عن مجريات المعركة واحتمالات المستقبل المبشرة بالخير ، وأوصانا بضرورة اليقظة والحذر، فالعدو الإنكليزي الذي يحاربنا مناور غشاش .

 بعد هذه المقدمة التفت إليّ " الآغا " وقال : " يا باش جاويش علي " ، ألا يوجد بين رجالك من يعرف القليل من الغناء ليغني لنا أغنية عذبة تريح نفوسنا المتعبة ، لقد أدمت هذه الحروب قلوبنا قبل أجسادنا .

قلت لا أدري يا " آغا " ولكني سأسألهم، وقد قمت بسؤال رجالي فتطوع أحدهم وادّعى أنه يعرف الكثير من الأغنيات ، وقد أحضرته " للآغا ليغنّي " له ، وقد فعل ويا ليته لم يفعل ، إذ أنه ما إن أطلق لحنجرته العنان حتى سمعنا صوتاً منكراً بينه وبين الطرب والغناء مسافة دهر وربما أكثر ، وهذا ما جعل " الاغا " يأمره بالتوقّف من فوره ، وليلتفت لحرّاسه مصدراً إليهم أمره : خذوا هذا الدعيّ وابطحوه أرضاً ، واضربوه حتى يقسم لكم أنه لن يغنّي مرّةً أخرى ما دام حيّاً ، بل وإن أمكن في الآخرة أيضاً .

الكاتب : عبدو محمد رشو 12/11/2005


هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟

إسمك :
المدينة :
عنوان التعليق :
التعليق :


 
 |    مشاهدة  ( 1 )   | 
http://www.tirejafrin.com/index.php?page=category&category_id=204&lang=ar&lang=ar