رواية

دمعة من خريف آمد

كانت الشرفات المطلة على الساحة الكبيرة بجانب الجامع الكبير وسط مدينة " آمد " مكتظة بالناس . والأزقة الضيقة تمتلئ بمن أتوا يشهدون آخر ليلة من ليالي هذه المدينة . وخلف أحد الأعمدة الاسطوانية المهترئة في فناء إحدى الدور المطلة على الساحة  كانت يد طفل ترتعش بشدة , كان يقبض على حصاة حوارية بيضاء , يتردد في كتابة بعض الأحرف على الجدار المواجه للساحة , وكانت " آمد " حينذاك تستقبل ليلتها الموحشة بأضواء الأسرجة والمصابيح العتيقة تمتد فيها ألسنة النار كألسنة الأفاعي ,تحاول أن تبعث النور إلى فضاء الساحة , بينما باقي أطراف المدينة تتمزق في الظلام , ولعلها أنست بعض الشيء إلى هذا الظلام إذ لمحت فيه ما يستر من معاني ذلك التمزق .

وفي إحدى الزوايا الموحشة كانت مجموعة من النسوة يرقبن المشاهد التي تحدث وسط الساحة برقة قلب , ودموعهن تسيل فوق خدودهن التي لسعتها النسمات الباردة التي كانت تتسلل إلى أجساد الناس وتأبى إلا أن تترك أثرها في كل وجه . وسُمع إذ ذاك نشيجٌ وعويلٌ آتٍ من جهة النسوة , وراقب الناس حال المرأة التي خرجت عن طورها فراحت تلقي السباب على الجنود الأتراك بلغتها الكردية , وبعض رفيقاتها تحاولن أن تهدئن من روعها , بل وتسكتنها عما تند به شفتاها .

ـ كفى يا كلستان ...لا تلقي بنفسك إلى التهلكة .... هذا أمر قدره الله وما شاء فعل .

لكن امرأة أخرى تشجعت وقالت بصوت جهوري :

ـ نشكو بثنا وحزننا إلى الواحد الأحد .

وقالت أخرى : اللهم أرنا فيهم يوماً أسودا .

ولو تجولنا بين هؤلاء الناس الذين قدموا من كل حدب وصوب  وتجمهروا في هذه الساحة, لرأينا أن حالهم لا يختلف كثيراً عن حال كلستان ورفيقاتها , فقد كانوا يتحرقون غيظاً وحنقا , والأسى يمزق قلوبهم والخطب الجلل يخطف عقولهم ...غير أنهم كانوا بلا حول ولا قوة ...إلا ذلك الطفل الذي كان يراقب ما يحدث من خلف العمود , فقد كان يحاول أن يفعل شيئاً , ربما أن يكتب بحصاته أحرفاً على الجدار الهرم , علَّها تبقى بعد تداول الأيام .

كانت " آمد " في تلك الليلة تبدو كقبر كبير يستعد لأن يضم بين جنبيه أبطالاً حاولوا جاهدين أن يمزقوا ستار الظلام ويحطموا قيود العبودية ويلقنوا الأجيال بعض مقومات الوجود ويكشفوا الستار عن الطورانية الشرسة .

سكونٌ عجيبٌ يسود سماء المدينة , غابت نجومها أو تكاد , وما بقي منها كأنها مصابيح مأتمٍ فظيع , نسماتٌ باردةٌ تتسلل عبر الجدران المضعضعة , تتخلل صفوف الجندرمة التي وقفت تحرس المكان , تقبل بشغف وجوه المكبلين بقيود الظلم .

أحسَّ ذلك الطفل أيضاً بتلك النسمة التي أيقظته من غفوته, فانتبه إلى ما خطه على الجدار فإذا به قد كتب : " سعيد بيران " .

"ياإلهي ..." سرت في عروقه رعشة, رمق حبل المشنقة , وجده ملتفاً حول عنق أحدهم , داهمه هاجس مخيف , إن حبل المشنقة يقترب من عنقه , أخذته الحيرة والارتباك , ولم يسعفه عقله الصغير ماذا يصنع , وانطلقت يده المرتعشة دون إدراك تمحو بجهد ما خطته على الجدار , فلما اطمأن إلى غياب الأثر شعر بالاطمئنان لبرهة , ثم ما لبث أن عاد إليه الوجوم حين ألقى النظر إلى وسط الساحة , وحاول أن يميز الشيخ البطل من بين المكبلين  , فوجد رجلاً طويل  القامة نحيل الجسد , لفحت الشمس وجهه , شدَّ حول جسده عباءةً مهترئة ووضع فوق رأسه كوفيةً مغبرة , والبنادق الشرسة تحرسه في حذر .

كان ذلك الرجل هو الشيخ سعيد بيران بعينه , كان ينظر بعينيه الثاقبتين إلى تلك الجموع المحتشدة عند أطراف الساحة , فتنحدر من عينيه دمعتان تسيلان فوق خدوده المجعدة , ويقول في نفسه متألماً " ترى هل أنرت لهم الطريق  ؟ "  , كان يتمنى لو يبقى حياً فيزرع في رأس الكردي بذور الثورة ,ويقنعه وأن الآخرين لن ينفعوه في شيء , فيقلب ثورته للكرد ثورة عليهم . وهزَّ رأسه بكثير من الأسى فالطعنة التي تأتيك من ابن أمك أشد ألماً وأبلغ جرحاً من تلك التي تأتيك من غريب . وتمنى بعدها أن  يكون هو تلك الشعلة التي ستضاء في هذه  الليلة لتنير للأجيال القادمة , ومهما يكن فإن الطفل الواقف هناك سوف يتخلص من الخوف الذي يمزق أحشاءه وسوف يخطُّ نفس الاسم على ذلك الجدار .

توجه الشيخ سعيد في تلك الأثناء إلى رئيس محكمة الاستقلال وقال له :

ـ " أتمنى لكم الخير , ولكن سوف نصفي الحساب يوم القيامة " .

لكن رئيس المحكمة لم يشعر بثقل هذا الكلام , ولا بالرعب الكامن في معناه , بل كان ينظر إلى الشيخ كميت حي أو كحي ميت , لا يلبث أن ينتهي إلى الأبد , وتنتهي معه كل معاني الخوف التي كان يشعر بها في الأيام الماضية , ولو كان الأمر على غير هذه الحال لحسب للشيخ ألف حساب , ومَنْ مِنَ الأتراك لم يحسب للشيخ ألف حساب , ومن منهم لم يسهر الليل الدجوجي ليتآمر على خطورة معاني القوة التي تضاء في أدمغة أولئك المشايخ .

وظل رئيس المحكمة يعالج في نفسه ما يقصده الشيخ من قوله : " يوم القيامة ",  وربماينتظر أن يسعفه الشيخ بالتوضيح , غير أن الشيخ تركه وتوجه مرفوع الرأس إلى القائد العسكري الذي كان منتشياً بانتصاره , يمني نفسه بالليالي الحمراء التي تنتظره ويتلهف شوقاً إليها , إذ مُنع منها طيلة أيام الثورة , وتراه الآن قد نفد صبره ولا يريد إلا أن ينفذ حكم الإعدام في هؤلاء المكتوفين الذين يتجاوز عددهم الأربعين رجلاً من بينهم تسعة شيوخ .

قال الشيخ سعيد للقائد العسكري :

ـ " تقدم أيها الجنرال وقل لعدوك إلى اللقاء " .

تقدم أيها الجنرال وأسدل الستار فوق الأيام الشاقة التي أمضيتها في مواجهة الأبطال  , وعد إلى همجيتك وحيوانيتك , واترك لنفسك العنان للهو مع القين الكواعب في الجنان , أعلن الليلة بداية الفلتان , ولا تنس أن لهوك هذا لن يدوم .

رأى الناس في تلك الليلة هدوء القائد العسكري أمام الشيخ , ورأوا وجوم رئيس المحكمة , كما رأوا الشيخ البطل يقف بهدوء بين جنديين تركيين يلفان حبل المشنقة حول عنقه , مسيطراً على لواعج نفسه ...لا يرى بعيونه التي في رأسه بل يرى بأعين أخرى ملايين الشيوخ هبوا من كل حدب وصوب يحطمون قواعد الظلم وأركان المشنقة , ويرى شبان الوطن الموعود يتكلمون الكردية بطلاقة وجرأة بعد أن كانت محرمة عليهم , ويتأبطون أسلحتهم مرتدين الزيَّ العسكري في جيش لَجِبٍ يثير الغبار كالغمام ,  ويرى الأطفال يمسكون بأقلامهم الصغيرة يخطون على دفاترهم ويقولون لأهليهم مبتهجين : " لقد قرأنا في المدرسة بالكردية !! "   ويرى الأقلام التي ستقبل وجوه الصفحات تكتب قصته للأجيال .

كان الشيخ سعيد حينذاك يرى أبعد مما يراه هؤلاء الناس من حوله , وتراه الآن يلتفت إلى الناس الذين بدأوا يُخفون وجوههم خلف أكفهم , يريد أن يشير إليهم أن لا استسلام ولا خنوع , بل نضالٌ حتى الموت .

لحظات كانت ثقيلة الوطأة على القلوب الرقيقة , حاولت النسوة أن يلفتن وجوه أطفالهن عن المشهد الجلل غير أن فضول الأطفال كان أقوى ورغبتهم في معرفة الدنيا كانت جامحة , ولم يستطع أحد من الرجال أو النساء أو حتى الأطفال  أن يغمض عيونه عن الشعلة التي توهجت حين أزاح الجندي التركي الكرسي الخشبي من تحت أرجل الشيخ  .

في هذه الليلة طغى قانون واحد على كل القوانين في أرض " آمد وأرضروم وخنس وبالو وبيران " وداس عليها كما يدوس النمل َ فيل ٌ هائج , لا هو يشعر بالنمل ولا النمل يجد فرصة للنجاة , ولايزال يدوسها حتى يسحقها ويغيبها في طبقات الأرض . وانقلب الوجود إلى ساحة واحدة تمتلئ بالدماء مع إسفار الصبح وزُلف الليل , تستقبل ضوء الشمس ببريق يسطع من دماءٍ تسيل من جراح جثةٍ تفترش تراباً ندياً يشع نوراً , وتستقبل الليل البهيم بدموع امرأةٍ فقدت أسباب العيش ومطامح البقاء وفلذات الكبد . يوم تحول كل شيء إلى ضده إذْ تحولت العمامة إلى قبعة , فأسفرت القبعة من الرأس ما أسفرت  الأيام من الأحقاد , وصارت القبعة ناموساً من نواميس الكون بينما تطايرت العمامات مع الرياح الهوج القادمة مع أتاتورك , وتطايرت معها بقايا الحنان الشرقي والرفق الشرقي والأخوة الشرقية , وسرعان ما تطاير معها الشرق بأسره ليظل متطايراً أبد الدهر لا يجد له من قرار . وصار وجهٌ للطبيعة غير وجهها الطبيعي حين ازدانت بحلة الدم وتبهرجت ببريقه , وقد كانت تزدان بضحكات الطفولة وحنان الأمومة وتتبهرج ببريق العمامة تنير ممرات الحياة , وصارت لها أنغامٌ شجية ترددها حناجر الأيامى واليتامى وقد كانت ترددها أبلغ البلابل لحناً وأعذبها صوتاً, وحين صارت اللحى التي وَخَطَها الشيب كالأعشاب تفرش أعالي الجبال ودروب القرى  وأزقة المدن . ومع أولى صرخات البنادق والمدافع قررت السماء أن تمسك عن هدير الرعود ووميض البروق وهطل المطر , وقرر القمر في حجرته السماوية أن لايبعث جمال نوره إلى الأرض إلا ما ينعكس من دمعة براقة في أهداب امرأة فاقته جمالاً .

ماذا حصل يا آرارات ويا ديرسم ويا شرف الدين و يا آغري .....؟

لماذا يقلق الأموات في ظلمات قبورهم ويرتعدون ارتعادة من لم يذقْ طعم الموت ؟

لماذا ترتعش الجمادات كأن بها روحاً تخشى فراقه , وتبقى قلوبٌ بشريةٌ جامدةً لا تهتز لبكاء اليتامى وأنينهم ؟

يا للموازين كيف انقلبت ! , ويا للقوانين كيف تكمشت وتقلصت لتظهر في قانون واحد ! ويا للأيام كيف تبدلت على سفوح آرارات فأمسى بها العربيد حاملاً للواء الشريعة قادماً بوجه جديدٍ لها , راغباً في تربية جديدة للرؤوس الشرقية , تربية تنمُّ عن سرٍ من أسرار القبعة . أيحكم على هاتيك الجبال أيضاً  أن تلبس القبعة وتخلع عمامتها الأزلية ؟  أتلبس ساحة " آمد " أثواب الزينة وقد شهدت ما شهدت هذه الليلة ؟

أيحكم على هؤلاء البسطاء المحتشدين على أطراف الساحة أن ينسوا هذه اللحظات ما عاشوا ؟

تراجعت كلستان وقد خارت قواها واتكأت على إحدى رفيقاتها وطلبت منها أن تعينها على السير , فقد قصمت الأحداث ظهرها ونالت منها كل منال , وقررت أن تنطلق  مع إشراقه الشمس من الغد قاصدة ًقريتها القابعة في أحضان جبال آرارات , مع كوكبة من رجال القرية ونسائها الذين التجؤوا إلى هذه المدينة بعد أن داهمهم الخطر في كل مكان .

وفي الطريق إلى القرية تذكرت كلستان أن عمها الحاج إبراهيم أحمد ينتظرها على أحرِّ من الجمر ليقيم عليها الحد , وقد أبلغها من قدم من القرية أنه لا يزال يعتبرها آثمة وهو يتحرق غيظاً وحنقاً , و قد أعلن للملأ أنه سوف يقتل ابنة أخيه جزاء جريرتها, ولن يعدل عن عزمه ما دام في جسمه بقيةٌ من روح .

" أتراه على قيد الحياة ؟ " ... هكذا كانت تسأل نفسها ... ألم تأخذه الأحداث ؟ ألم يقعده الكبر فيعجز عن قتلها ؟  فتراه شيخاً قد بلغ من الكبر عتياً , وقد أصابه من الصمم وكلِّ البصر ما إنَّ عدوه ليشفق عليه , فتلقي بنفسها بين يديه تطلب منه الصفح عن أمرٍ لا تعتبره إثماً ولا تجد نفسها مستحقةً لعقاب , ثم داهمها هاجسٌ مخيف  , لقد سمعت بالقرى التي سحقت عن بكرة أبيها , أترى ...  هل طال ذلك قريتها ؟ لكنها أبعدت هذا الهاجس حين تذكرت أن عمها الحاج إبراهيم كان أبعد الناس عن الاتصال بالثورة , وكان يغذي رجال القرية بآرائه ويحاول جهده أن يبعدهم عن كل ما من شأنه أن يجلب وجع الرأس للقرية .

وارتاحت نوعاً ما إلى هذا الرأي , لكنها ظلت تتذكر مرَّ الأيام التي قضتها في القرية , والأيام الأمر التي عاشتها خارجها . وبدأت تشعر بخفوق قلبها وهي تصعد الأكمة حيث تظهر خلفها القرية التي تحتضن كل ذكرياتها وآلامها , ولا تدري ما ستلقاه فيها بعد . فإنها مقدمة على أهم أيام عمرها والتي قد تلقى حتفها دونها , فإنها اليوم غير الأمس , لقد غيرت فيها أحداث الثورة الشيء الكثير , برغم أنها كانت قابعةً بين جدران أربعة تنتظر قدوم زوجها , لقد وعدت زوجها أنها ستعود إلى القرية لتطالب بحقها وتواجه عمها الحاج إبراهيم بأية وسيلة تستطيع إليها سبيلا , وأنها ستفضح جريرته على الملأ وتكشف للناس الذين بهتوها وافتروا عليها أنها لم تكن بغياً , وتكمل لهم من سيرة زوجها ما جهلوا , لقد وعدت زوجها أنها ستكمل الحكاية , وتنقل المأساة للأجيال لكي لا يغفل الأحفاد عن تضحيات الأجداد .

كانت القرية تدعى " كسروان " تحفها بعض حقول الزيتون في أطرافها الجنوبية والشرقية , وتمتد على أطرافها الغربية أراض شبه سهلية غير مخدمة , وفي أفقها الشمالي تشمخ جبال آرارات بعمامتها البيضاء المخددة التي صارعت نائبات الأيام  . كانت جدران القرية الطينية المضعضعة تسجل أحداث التاريخ و نائبات الدهر .

ولو فتحنا سجلها لوجدنا الشيخ مصطفى كالو يأخذ مجلسه بين نفرٍ من رجال القرية في المضافة التي خصصها الحاج إبراهيم لمثل تلك المجالس , والتي كانت تضاء في الليالي المظلمة بنورين , نورٌ مصفر خافت ينبعث من المصباح الموجود فوق الرف الحجري في زاوية المضافة , ونورٌ لا يعرف له لون , يشع من أحاديث الشيخ مصطفى كالو , وترى النورين يتركان أثرهما في نفوس أولئك الرجال المعدودين .

ولطالما حنَّت تلك النفوس إلى مصباح المضافة ,حيث يظل مشتعلاً يبدد ظلام الليل الموحش , ولطالما حنَّت إلى سراج الشيخ يبدد ظلام النفوس المتقوقعة . ولقد تعبت الأيام وكلَّت من وطأة الظلم وجور الفقر , ووجد الرجال ملجأهم في المضافة , يلوذون إليها فارين من نواح امرأة ٍأو أنين طفل ٍجائعٍ أو ظلامٍ موحشٍ لا شعلةَ  تبدده , وكما كان لسراج المضافة  فضلٌ على الناس , فكذلك كانت أوانيها تصف على الخوان مليئة بالطعام كل يوم . ولا نقول إن الحاج إبراهيم كان إقطاعيا أو آغا أو زعيم عشيرة , بل كان من صغار الملاك في ضواحي أرضروم , ومن كبارهم في قرية " كسروان " ,حين كانت الأرض لا تجود بأكثر من لقمة العيش , وكان يبدو أكثر الناس جوداً وطينته جبلت بالشح . رجلٌ في الخمسين أو يزيد , فارع العود, لفحته الشمس ككل الفلاحين , ورسمت الأيام في وجهه أخاديد الشقاء , وقُطِّبت حاجباه من مرارة العيش وكثرة الكد , وبقيت شرارة الحقد تنبعث من نظراته , كما بقي العرج وصمةً طالما كرهها مع أن له بها شرفٌ أي شرف . فما أصابه العرج إلا من رصاصة جنود السلطان ,حين قدموا القرية يجبون الإتاوات , وقد دخلوا إلى البيوت فما وجدوا فيها سوى الأثافي , فأبوا أن يذهبوا خاليي الوفاض حتى بلا خفي حنين , ففرضوا على أهل القرية ضريبةً أرطالاً من القمح ,عندها برز لهم الحاج إبراهيم كالأسد , ووقف قبالة رئيس الجند وقد فقد رباطة جأشه, فراح يصيح :

ـ أيها العصاة لا يجد أطفالنا ما يطعمون , وإن منهم من يموت جوعاً أمام أعيننا فلا نقوى على سد  رمقهم , أتريدون أن نحول لكم التراب قمحاً ؟

لطمه صاحب الجند لطمة جعلته يدور حول نفسه . لكن الدم فار في عروق الحاج إبراهيم وصاح في وجه صاحب الجند :

ـ فلينتقم الله منكم أيها الكلاب .

ووقف الناس حينها مشدوهين , كانت مثل هذه الأحداث تحبس أنفاسهم وترعد قلوبهم وترعش فرائصهم . لقد فهموا السلطان قدراً كالموت لا يرد إذا أتى , وفهموا صاحب الجند سيلاً جامحاً لا يُصد إذا انهال . امتدت البنادق صوب الحاج بينما تراكض الناس ليلتفوا حوله وأسرعت رصاصة لتصيب ساقه قبل أن تضج القرية وتهيج وتميج . وسرعان ما اجتمعت القرية بقضها وقضيضها مسلحين بالعصيِّ والحجارة وعويل النساء وصرخات الأطفال , بينما كانت الأحصنة تبتعد بجنود السلطان عن قرية " كسروان" دون أن يحصلوا على شيء . ومن يومها صار الحاج الأعرج بطل القرية ورمزاً من رموزها التاريخية . أما في هذه الليلة فإن الرجال يسترقون النظر إليه تحت ضوء السراج المصفر حيناً بعد حين , وقد علموا ما أصابه من هم وحزن , وكيف جارت عليه الأيام في الآونة الأخيرة , وربما بدأ هؤلاء الضعفاء يشفقون عليه ويدعون الله أن يأخذه برحمته ويحيطه بلطفه ويهون عليه مصابه .

أجل ... مصابه في أخيه رشيد الذي كان يأخذ مكانه في المجلس واجماً كأن على رأسه الطير, لا ينبس ببنت شفة ,  ولا أحد يجد في نفسه إقداماً على التحدث معه . كان يضع رأسه الأسود على كفه الصلبة ,ويحدق بعينيه في زاوية المضافة كأنه يقابل ما بينها وما بين زاوية قلبه , زاويتها تجمع نور السراج , وزاوية قلبه تجمع ظلام القدر وسوء الطالع . لقد اخبروه آنفاً أن مرضه هو ( الذي لا يسمى ).

وقطع وجومه سعال عنيف لازم الشيخ مصطفى منذ فترة , فجال ببصره في وجوه الرجال يتفحصها كأنه يستغرب من وجودهم في عالمه الذي كان به للتو , وأراد أن يستدرك المجلس ويصطنع ابتسامة مقتولة يرحب بها بضيوفه , لكن الشيخ مصطفى فاجأه حينما قال :

 ـ اسمع يا رشيد : إن الخير كله من عند الله , وإن حكمه ماضٍ فينا و لا اعتراض على حكمه وهو أعلم بنا منا , لا نسأله ردَّ القضاء ولكنا نسأله اللطف فيه , وهذه امرأتك تعالج آلام المخاض فلندعو الله أن تضع حملها بسلام  .

تنحنح الحاج إبراهيم وقال بلهجة ساخرة :

ـ بل ادعوا بأن يكون المولود ذكراً .

قال الشيخ وقد أدرك ما أصاب رشيد من وخز كلام أخيه : ولا تيأسوا من روح الله , ولا تكن يا رشيد ممن قال عنهم الله تعالى " وإذا بُشر أحدُهم بالأنثى ظلَّ وجههُ مُسوداً وهو كظيم , يتوارى عن القوم من سُوء ما بُشر به , أيُمسكه على هُون أم يدسُّه في التراب , ألا سَاءَ ما يحكمون " . وهنا تمتم رشيد بكثير من الحسرة  " لن أكون منهم إن شاء الله "  .

قال الحاج إبراهيم وهو يهز برأسه ساخراً : لكنك كنت منهم حين ولدت كلستان .

فصمت رشيد ولطالما كان يصمت إذا تكلم أخوه الأكبر , وفهم الشيخ مصطفى ما تركه كلام الحاج إبراهيم من أثر في نفس أخيه , وكانت أصابعه تعبث بحبات السبحة الطويلة , فتوقفت جامدة واختفى ضجيج السبحة وعلقت الأنظار ما بين رشيد والشيخ .

ـ قلتَ كلستان ؟ ... الطفلة التي لم تتجاوز السنتين بعد ؟

فأجاب الحاج مؤكداً : نعم ... كلستان ، أي نعم  .

ـ أعلم أنه كظم غيظه حين ولدت , لكنه بعد أن رأى محياها الباسم وسمع ضحكتها العذبة و رآها تحبو ثم تدرج , نما حبها في صدره وابتهج بها أيما ابتهاج .

وكان الشيخ صادقاً فيما يقول , إذ سرعان ما تحول حنق رشيد وبؤسه إلى فرح وقبول , وما أن فهم ذلك المعنى البعيد الكامن في الذرية , معنى ديمومة الحياة وسلسلة الأجيال حتى وجد فيها قطعة من البركة واليمن تنزلت على بيته , وقطعة من الرحمة الإلهية ملأت فؤاده.

والتفت الشيخ إلى رشيد وأردف قائلاً :

ـ الم يكُ ذلك يا بني ؟

صورٌ كثيرة تعاقبت على مخيلة رشيد , وأحاسيس شتى تقاذفت شعوره ما بين الغيظ والحنق وما بين السكينة والبهجة, ما بين صورة أخيه القاتمة وصورة كلستان المضيئة , تشتتت أفكاره أيضاً , ولم يزد على قوله :

ـ بلى مولانا .

زعيق باب المضافة جذب انتباه الجميع , انتصب رشيد واقفاً في حين ميز الجميع صوت المرأة التي نادته , ولم يغب أكثر من لحظات , عاد والفرحة تملأ وجهه واتجه صوب الشيخ وراح يقبل يديه و يبللهما بدموع الفرحة . وقف الحاج إبراهيم مستغرباً , غاب أيضا يستوضح الأمر , ثم عاد دون أن يجد الناس في وجهه ما يفسر معاني الفرح . أما رشيد فكان يقول للشيخ مصطفى :

ـ رزقني الله ولداً يا شيخ مصطفى .

سبحان الذي يعطي و يمنع , سبحان الذي لا يعلم البشر معاني عطائه ولا أسباب منعه, أهو الدواء لقلب اطلع على ظلمة القبر , أم هي الرقة جاءت تمسح غشاوة الفظاظة عن قلب المسكين ؟ سرعان ما امتلأت المضافة بهجةً , وقام الرجال يهنئون رشيد , بينما كان الشيخ مصطفى يرفع يديه شاكراً الله تعالى على نعمته  .

على مشارف جبال آرارات كانت أحلام الصغار ترفرف بسلام , وفي أعماق هاتيك الجبال كانت البنادق الفتية تنثر بذور الغد . عندما كانت العمائم متوطدة على الرؤوس الشرقية الصافية . وكانت القرية الكردية آنذاك تحتفظ لنفسها بالكثير من معاني الرفعة والإباء , احتفاظ الأم بولدها الذي ترفع به رأسها وتسند به ظهرها في حالكات الليالي . في حين كانت الإمبراطورية العثمانية تهترئ شيئا فشيئا حتى لتبدو وكأنها تلفظ آخر أنفاس العظمة .  وتحدث الشيخ مصطفى كالو عن ذلك فقال :" اعلموا أيها الناس أنه ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم" . لقد طوى الدهر من أيام المجد  أكثرها , وها نحن نخلع النعلين أمام أيام سود لا ندري ما أخفي فيها من شر . لقد استكانت النفوس للظلام حتى نسيت معاني النور , واستراحت للعبودية ورضيت بها حتى نسيت معاني الحرية , فهذه النفوس وإن سطعت عليها أنوار الحرية انكمشت انكماش الخفاش داهمه النور , وحنَّت إلى عهود الظلام حنينَ السمكة أُخرجت من بحرها " . هكذا كان الشيخ يبدأ حديثه لرجال القرية , وقد كان التهكم طبعاً من طبائعه , والسخرية ممزوجة بدمه الثائر المنتفض , يرى كل ما حوله يسير إلى الخطأ , وعبثاً يحاول أن يصلح ما يفسده الدهر . سرق الدهر من عمره عقوداً أربعة فتوجته العقود الأربعة هذه بلقب " الشيخ " .  إلا انه لم يستأنس يوماً بهذا اللقب . رجلٌ شريف الجانبين قد وَخَطَه الشيب فتواضع له , وعلم أن الشيب علامة من علامات الموت تتبدى له وتنذره حتى شابت نفسه وفقدت أكثر معاني شبابها وحيويتها , ثم تقهقر كبرياؤه حتى استقر في فكره ورأيه , وتقلصت آماله حتى خرجت عن مطامح الدنيا إلى مطامع الآخرة , واستقامت كلماته حتى تركزت في معاني الصلاح . ولما التصق به لقب " الشيخ " شعر بثقل جبلٍ يهوي على كاهله . فالشيخ وإن دلَّ معناه اللغوي على الطعن في السن , فإنه يدلُّ في قواميس الناس على الارتباط بمعاني الدين …  أما الشيخ مصطفى فقد أدرك أن الشيخ في معناه الدقيق ليس نفسه لابس الجبة والعمامة و طويل اللحية والسبحة , بل هو الروح الذي تستقيم به الأرواح ,  وهو الذي أثره في الناس كأثر المنارة على الشاطئ ترشد السفن الضالة , ومعناه للناس كمعنى الماء للظمآن ومعنى النار للبردان ومعنى الهدى للضليل . بل هو الدين مصوراً وهو الشريعة منتصبة وهو الحق ماشياً وواقفاً .  ولا يدرك الناس معنى الشيخ إلا إذا أدركوا تلك المعاني فيه . ويلبس الشيخ مصطفى كما يلبس الناس ولا يتميز عنهم بما يتميز المشايخ عن السواد .  وإذا سُئل في ذلك  قال : " إنه لحملٌ ثقيل " . وامتلك قطعة أرض في طرف من أطراف " كسروان" كان يكتسب منها , ولم يقبل أن يكتسب من عمله في مسجد القرية . وكلما عرض عليه الناس شيئاً كأجر له على قضاء جُلَّ وقته في المسجد , كان يقول لهم : " ألِلَّهِ الصلاةُ ومنكم الأجر؟ ... إنما أطلب أجري من الله ."

 ضف إلى ذلك كله أن الشيخ مصطفى كالو كان على صلة مباشرة بالأحداث السياسية والعسكرية , وكانت تصله قصاصات من المنشورات والصحف التي كانت تنشر آنذاك , ولم يكن يتحدث في هذه الأمور بعمق في مضافة الحاج إبراهيم , غير أن بعض شباب القرية كان يجتمع به في داره  وكان الشيخ يلقي عليهم ما يستحصله من تلك القصاصات . وكان من أكثر ندمائه آنذاك  رشيد  شقيق الحاج إبراهيم أحمد .   كانت الأيام تزحف ببطء وكان الظلام أثقل شيء يهبط على القرية, حين لم يكن لدى الناس سوى المصابيح والأسرجة العتيقة يردون بها ظلام الليل وكآبته ووحشته , إلا أنهم لم يجدوا ما يردون به ظلام القلوب , والقلوب هذه كانت أظلم ما تكون في تلك العائلة التي يتسيدها الحاج إبراهيم , والتي اشتملت على كل معاني الحياة , فكانت صورة مختزلة من الإنسانية , ونمطا ً مصغراً من الصراع بين القوى , وأنموذجاً حياً للطبيعة الهائجة تضاربت فيها قواها حتى أكدت قانونها الطبيعي " القوي يأكل الضعيف " ... وأي عائلة عنكبوتية هذه , تمزقت فيها وشائج الحب وانعدمت منها الحميمية المفروضة . لقد تقمصت تلك الطبيعة لتبدو في هيئة أسرة , وتكمشت لتظهر في رهط منها , وتشوهت حتى لا يرى الناس فيها ما هو فيها , وتزينت من الزينة حتى ظهرت أنموذجاً ومثالاً حياً عن أسمى معاني الوفاق .

ولم يكن هذا التقمص والانكماش والتشوه والزينة إلا انبثاقاً من دهاء الحاج إبراهيم , وتعبيراً حياً عن بعد حيلته وشدة حذاقته ومكره ومدى إحكامه وضبطه لمعاني هذا الانقلاب , بل قل إنه كان نوعاً مصغراً من الطغاة قد اكتسب قسوة ودهاءً وخبثاً , صنع من جميعها نفسه لتبدو شيئاً أشبه ما يكون بنفوس الطغاة . فلما بلغ بنفسه هذا المبلغ ظن أنه بلغ مطمحه وحقق مراده . ولم يمكنه من بلوغ طموحه إلا قلة الطموح لدى ذويه . وما سلطه عليهم إلا لجبنهم واستعدادهم للرضوخ . .... يقولون  :   " ما علَّم اللص َّ السرقةَ إلا المالُ السائب " !!! أو كما كان دارجاً  : " يا فرعون من فرعنك ؟  فأجاب : لا أحد ردني " .

ولقد زين طغيانه بصورة من بعد الفكر ورجاحة العقل وهدوء البال والاتزان في المجالس والهيبة والوقار التي يسكبهما على نفسه . ورأى فيما رأى أن المجدَ لا ينالُه إلا إذا ذكر الناس محامده , فراح يصنع فيهم ما يمدحونه عليه وهو منصرف إلى الانتشاء بأي نوع من المديح كان .

ومرت الأيام وصنعت من الحاج إبراهيم شيئاً يشبه الزعيم ,  وإن كانت القرية لا تتسع لهذا المنصب و لكن " الأعور في بلد العميان ملك " , لكن بلد العميان كان صغيراً جداً . وإذا قلت إن القرية كلها كانت بلد العميان , فإنها لم تكن يومئذ ٍ تحوي بين أكتافها غير بعض العوائل الرقيقة التي ما اعتادت يوماً أن تنظر إلى فوق , وبعض الرجال الذين انصرفوا إلى  تربية الأغنام أو الكد في أراض صخرية وعرة أو قضاء وقت طويل في ألعاب طفولية تسري عن نفوسهم المكتئبة . وإذا قلت إن عائلة الحاج إبراهيم هي بلد العميان فإنها كذلك كانت ضيقة للغاية , وكان للحاج إبراهيم ولد اسمه "  جومرد  " يكبر كلستان بعامين , وابنتان صغيرتان إحداهما عائشة من لدات كلستان والأخرى  روخاش تصغرها بعام واحد . ولقد كانت كلستان الصغيرة تهاب من عمها الحاج إبراهيم كما يهاب الطفل من وحش الحكايات المخيفة , وكذلك كانت ابنتا عمها . وما خافت كلستان من أبيها قط خوفها من عمها . لقد كان أبوها ملاذها الوحيد في عالم الخوف , فهو الوحيد الذي كان ينقذها من الحاج إبراهيم حين يشتد غضبه وتقوى ضرباته , أما أمها فكانت تقف بعيدا ًلا تملك سوى البكاء على مضض . وما أشد بكاؤها هذه الأيام بعد أن علمت مرض زوجها . وها هي ذي على بعد أيام أو أشهر لتفقد شعلة النور التي تضيء حياتها وباعث الحياة في جسدها وسيفها المسلول في وجه نائبات الدهر . وماذا هي بدون رشيد ؟؟ نهر بلا ماء ؟ أم سماء بلا نجوم ؟

حتى في هذه الأيام العصيبة لم يكن رشيد يجد من أخيه شفقة الأخوة . كان يكبح جماح نفسه الملتهبة ويحبس كل الهموم في قفص ضيق جاعلاً  من أساه درباً للفناء . وإن الهم لا يكون ثقيلاً إلا إذا كان كسلسلة تتعلق حلقاتها بعضها ببعض , لا يكاد الرجل يهم قائماً حتى تثقله فتوقعه , والمسكين كان ممن تعلقت الهموم بكل خلية من خلايا جسمه فانهار حتى لم يكن له من حراك , وقد أمدَّه الله بشعلة من الأمل بولادة ابنه شيار , فقد كان هذا الولد هو الشعاع المأمول , وكان الحلم الذي يمتد لعشرات السنين وكان الصفحة التي تحفظ اسمه بعد الممات , وكان الميراث الذي يدَّخره للغد , وكان الحزنَ الجاثم في أعماق القلب . ظلت الأحزان تخسف بقلب المسكين حتى أوقعته عليلاً , ويئس منه الطبيب . ولعله إذ ذاك تناول جرعةً من الموت فاستساغها فطمع في المزيد . وإن الموت ليكون أطيب ما يراه الإنسان في عالمه إذا استبد به عالمه, وضيقت الأحزان حصارها على قلبه المتوجع , واشتدت الخصاصة وشظف العيش , وزاد البؤس عن حده . فإذا بالإنسان حينها ميتٌ حي , يرى من الدنيا بأقل مما يُرى من خلال سَم الخياط . ولعل المصاب يكون أشدَّ إذا فقد الإنسان مع حاله تلك سلاحه المخصوص لمثل تلك الحال وهو الصبر , فإذا بالشيطان يدخل من أوسع الأبواب فيسطو على القلب اليائس والعقل المشلول والأعطاف المترنحة , فيأخذ بها شر مأخذ .

ودرجت الأيام على رشيد وهو على حاله تلك حتى لم يجده الناس يوماً ينبس ببنت شفة . وأجمع القوم أن الرجل مفارقهم لا محالة , وبدأت الدموع تبرق في العيون الحزينة , وبدأ الذعر يرتسم بخطوط سوداء على وجه الطفلة المسكينة . والطفلة هذه في أيامها تلك كانت أحوج ما تكون إلى حنان أبيها والى قوة أبيها . صحيح أنها لم تحظ بالكثير من هذا الحنان كونها أنثى ,لكنها كذلك لم تلق من أبيها الفظاظة والغلظة ما تلقاهما من عمها . وما كان الذي بينها وبينه إلا كالذي بين صخر وحجر صامتين هذا قوي ضخم وذاك صغير ضعيف . ولعلها كانت تأمل أن تفهم معنى الأبوة من خلال معاني الأمومة , فأدركت أن  الأبوة ما هي إلا نفحة من نفحات الأمومة , فاطمأنت لذلك ولم تبال لنفحة من النفحات غابت  . إن الطفلة وهي طفلة تستطيع أن تقرأ في عيون الكبار أحاسيس الحياة , فينبض قلبها بهذه الأحاسيس , فهي تبتهج حيناً وتكفهر أحياناً . وما رأت أباها وهو طريح الفراش إلا صخرة ستتحطم فتخف وطأتها على الأرض التي تحملها , وما رأت الناس من حوله إلا متفرجين يشهدون معنى هذا الانهيار , فينظرون عبره نظرة إلى نهايتهم , هذه النهاية التي تظل تجر أولها عبر أيام اسمها العمر , وكلٌ يسعى إلى حتفه . وإذا بصيحة قوية تهتز لها أركان الدار فتنتفض القلوب وتبلغ الحناجر , وتنكمش النفوس خلف الوجل .  وإذا بالصيحة تتوالد وتنتشر حتى تملأ زوايا الدار فتخرج منها إلى أطراف القرية فتنتفض القرية عن بكرة أبيها للمصاب الجلل . وطريقة الموت دائما تحدد كمية الأسى , وحال الميت يحدد كمية الدموع , وما أكثرها تلك الدموع التي ستراق على رشيد . لقد حوت القلوب أكثرها جزءاً من حزن قلبه , فهي تبكيه اليوم بحزنين , فإذا اشتد صراخ المرأة المنكوبة في حضنها طفل رضيع زاد حزنا على الحزنين , فإذا تلكأت الطفلة الباكية تتقاذفها الأحضان الغريبة وتمسح دموعها أيدٍ خشنة بلغ الحزن أوجه  .

ودرجت هنيهات كانت أثقل ما درجت على هذه القرية . صاح الشيخ مصطفى من بين الدموع : " إكرام الميت دفنه , كفى نواحاً أيتها النسوة , إن نواحكن يزيده عذاباً " .

كان الحاج إبراهيم يقف جامداً قاطب الجبين يتكلف في إظهار الحزن فيفشل  , لم يجده الناس حتى يومه هذا باكياً , فأراد ألا يجدوه كذلك أبداً . وحملت أكتاف الرجال  نعش الفقيد ثم واروا جثته تحت الثرى , وعادوا أدراجهم إلى الحياة التي ستبدأ بحلة أخرى .

  ..........................................................   2  ..........................................................

  الحلة الأخرى التي لبستها أيام ما بعد رشيد كانت سوداء قاتمة مليئة بالأشواك , إذ لم تجد الطفلة اليافعة من أيامها تلك سوى أثواب مرقعة ولقيمات صغيرة هي فتات طعام الحاج إبراهيم وأهله وبنيه , وكان عليها أن تستيقظ مع أولى إشعاعات الشمس وتنفض عنها غبار الكسل وتهرع إلى الأرض الشائكة مع أمها ومع النسوة اللاتي تعملن في أرض الحاج إبراهيم . وما كان عملهن إلا لقاء طعام لهن ولأولادهن . ثم تختلط اليد البضة الناعمة مع الأيدي الغليظة التي انسلخ عنها جلدها الأنوثي الناعم , لتجد كلستان نفسها تعمل في الأرض مثل باقي العاملات . ولم تكن تدري وهي في أيامها تلك أنها كانت سيدة الأرض ومالكته , غير أنها كانت على أتم العلم أن أي تلكؤ في العمل عقابه شديد  .

 " أي رجل هذا الذي جعلته الأقدار عماً لي , أهو بالفعل آدمي مثلنا أم له قلبٌ من حديد , رباه !! أتمضي أيامي كلها تغشاها هذه السحابة السوداء , أتبقى ابتساماتي محبوسة في أعماق أكداس العشب والشوك , وأنسى أناشيد الطفولة وأنغام الألاعيب الجميلة هناك .....عند مفرق الطريق إلى الأرض  , وماذا لدي في البيت إن عدت كباقي العاملات ؟  أهناك شيء كالحلوى يجذبني , أم هناك لعبة جميلة تنتظر اليد التي تمتد إليها  وتعبث بها ؟ " . غير أن صرخات الطفل الصغير " شيار " كانت تهدهد فؤادها بلطف , حتى لكأنها تشعر بمعاني القوة تفيض من هذه الصرخات . لكن هيهات هيهات !! فمتى يكبر هذا الصغير ؟ وهل يكبر قويا ً أم يدسُّ الحاج في أعماقه الجبن والضعف ؟ 

لم تكن صرخات الطفل معنىً من معاني القوة المستقبلية فحسب , بل كانت إلى ذلك خيطاً من خيوط الحنان الطفولي تشد الطفلة التي بلغت التاسعة من عمرها بأخٍ جميل يحبو إلى الحياة حبواً  . وما أسعدها بهذا الأخ وهو يملأ الدار ضجيجاً وعجيجاً , وما أسعدها حين يمتلىء قلب أمها فرحاً وسروراً وتنسى كل التعب والظلم  . إذاً فالحياة ستقلب فؤاد الطفلة المسكينة ما بين معاني الحب والوئام ومعاني الظلم والخصام . الحلة التي طلعت بها الأيام فيما بعد كانت مزركشة بأنواع من حركات الطفل الوادعة التي تملأ القلوب سروراً ورقة , وكانت ضحكات الطفل وحركاته هي الملاذ الوحيد لكل من كلستان وأمها أمام هجمة الهمجية الغاشمة واستعار نار الحقد في قلب الحاج إبراهيم , ولعلها تعجب من هذه الأحقاد التي تزداد مع الأيام استعاراً , لأنها كانت صغيرة بعد على أن تفهم الميراث وتفهم الجشع , وتفهم الصور المتضادة لشخص واحد . كل الدهماء عرفوا الحاج إبراهيم سخياً , مقداماً على الخير , كثير المناقب قليل المثالب , فيما عرفه أهل داره على عكس هذه الشاكلة , فقد غابت عن الدهماء جوانب كثيرة من أعماق شخصية هذا الرجل الداهية .

وذات صباح استفاقت أم كلستان من نومها على أنين الطفل الصغير الذي لم يبلغ من عمره الثالثة بعد و نظرت إليه فوجدته يتفصد عرقاً وقد احمر وجهه وشلت أعضاؤه , فأسرعت مهرولة تستنجد بأهل الدار , وجاء الحاج إبراهيم فجذب الولد من فراشه وأسرع به إلى المدينة بينما بقيت أم الطفل كأنها على جمر , فلم تكف عن البكاء والصراخ  .

غاب الحاج إبراهيم وراء الأفق وهو يمتطي حصانه الأشهب والجميع يشيعه و يدعو للطفل بالسلامة , أما الحاج إبراهيم فإنه لما يمم بالطفل صوب المدينة  كان قد أزمع على أمرٍ أضمره في نفسه مذ لمح وجه هذا الطفل , وكان أن أضاف الشيطان إلى نفسه شيئاً من خبثه حتى أحالها كتلة حالكة السواد من الحقد والجشع والظلم , فهو كذلك حتى لم يجد في الطفل إلا ما وجد فرعون في موسى , وهو مع فرعون سواء بسواء في التدبير والتمحيص عن سبيل للخلاص من خطر داهم  يكمن في قلب الزمن  , لا تكاد تدرج أيامٌ حتى تسفر عن الشر . وإذا كان  فرعون قد لجأ إلى الحزم والقوة مع موسى بعد أن اشتد أزر موسى وقوي ساعده , فإن الحاج سيلجأ إلى الحيلة والتدبير قبل أن يبلغ الطفل أشده . ودخل الحاج إبراهيم مدينة ارضروم واخترق شوارعها الضيقة وتلفت يمنة ويسرة وهو يراقب أبنيتها المتراصة , ثم دخل دار الطبيب ومعه اثنان , ابن أخيه المريض وشيطانه اللعين , أما ابن أخيه فقد عالجه الطبيب , وأما شيطانه اللعين فقد ظل ينفث السم الزعاف في قلب الرجل الأعرج . ولما خرجوا جميعاً من دار الطبيب  توجه الحاج إبراهيم بهم إلى بيت من بيوتات المدينة كانت له صلة عريقة به , حيث ما نزل بالمدينة إلا عكف على هذا البيت وأغدق عليه من كرمه . وفتح الباب فبدا للحاج وجه كهل مبتسم ومن خلفه امرأته المسلف . كان البيت الصغير لا ينطوي إلا على زوجين أنضتهما الأيام بكل شيء حتى حرمتهما من الذرية فكان  بيتاً هرماً منذ يومه الأول , تقرأ في زواياه مرارة الأيام وتعسها , وتلمح على جدرانه معاني الهرم والشيخوخة دون أن تكون هناك أية معان ٍ للحياة المشرقة.

تسمَّر الطفل الصغير في الأوجه المستبشرة وطاف بنظره الوادع أرجاء البيت فلم يجد غير البؤس , وأوجس في نفسه خيفة واستشعر في معصمه ألماً من شدة قبضة عمه . بينما تهلهل وجه المرأة واستبشر , وكانت قد اعتادت أن ترى الخير مع إطلالة الحاج , وهرولت  إلى الوسائد  والنمارق تصفها وتنضدها وتنفضها على عجل, فيتطاير الغبار ويسعل الكهل الآخر ويومئ بيده المرتعشة أن تكف عن ذلك .

وقعدوا بالحاج إبراهيم مقعداً علياً , وطافوا من حوله في مرح وسرور كما يطوف الأولاد من حول أبيهم إذا ثاب محملاً بالهدايا . وكان أهل هذا البيت قد علموا من الحاج إبراهيم جوده وعطفه على ذوي الخصاصة من الناس وباركوا للأيام جمعتهم به .  وكفت المرأة عن حركات الرعاية والاهتمام , ومضت إلى زاوية من زوايا البيت تعد للضيف ما ينض به البيت . وحانت التفاتة من الكهل إلى الطفل الصغير وتسمَّر فيه مدهوشاً ثم قال للحاج :

ـ ما كنت اعلم أن لديك ولد سوى جومرد  !!

كان كلام الكهل هذا نسمة باردة وجدت طريقها بسهولة إلى نفس الحاج , فأصلح هذا من مقعده كأنما هو مقدم على أجد ما في الأمر , ثم أومأ إلى الرجل أن يدنو منه , فلما فعل قال الحاج :

ـ يا عبد الرحمن , إني سأحدثك بأمر هذا الطفل , وما ساقني إليك اليوم إلا أمره وفي نفسي شيء أرجو به خيراً لك ولأهلك .

أجابه عبد الرحمن داعياً : خيراً ... اللهم اجعله خيراً .

أردف الحاج : والله لكأن الأقدار تصنع صنيعها معك وتدبر تدبيرها لتجعل في الأمر خيراً لك .

قال عبد الرحمن وهو يهز رأسه مبتسماً :

ـ شوقتني يا حاج , بالله عليك إلا أخبرتني بالأمر .

قال الحاج إبراهيم وقد غشيته سحابة رقيقة أعيا نفسه ليطرها :

ـ اسمع يا عبد الرحمن , بينا كنت أجول في شوارع المدينة داهمتني صلاة الظهر فأردت أن أصليها جماعة في المسجد الذي يتوسط المدينة وقد كنت قريبا منه , فلما أديت الصلاة طفقت أتفرج على جنبات المسجد القديم وخرجت إلى ساحته أشاهد بدائع الزخرف والنحت , فإذا بي أرمق هذا الطفل يختلي بركن من أركان الساحة دون أن يكون من حوله من أعتبره صاحب شأنه , أو أحد ذ ويه , فعجبت من أمره ودنوت منه أسأله فإذا هو دون الكلام , فأيقنت أن الطفل ضالة أبويه , وأن أهل الخير قد  طافوا به أرجاء الحي بحثاً عن أهله فلم يهتدوا . فجاءوا به المسجد حيث تلقى الضالة وتبقى معلقة إلى أن تخطفها يد . وتفكرت في الصغير فإذا هو مرعوب في هذا الخضم البشري وبه وعكة  , وإذا هو لا يسأل عن والديه , فقلت لا بد يتيم بعدت عنه صورة والديه حتى انمحت من ذاكرته , حال الغائب ينسى إذا طال غيابه .

وقاطعه عبد الرحمن وقد بلغت به الدهشة أوجها وأخذه الخيال مع وصف الحاج كل مأخذ :

ـ لكن الطفل ولا بد من أهل هذه المدينة , فإذا نشرنا خبره بين السراة وأخبرنا أئمة المساجد يذكرون أمره في كل محفل لا بد أن نهتدي إلى أهله , ولنا في ذلك عظيم الأجر .

وتنحنح الحاج يريد منفذاً لهذا المأزق الذي وقع فيه , وجمع كل ما لديه من دهاء وسرعة بديهة , حتى قال :

ـ ما غاب عني ذلك يا عبد الرحمن , فقد أمسكت من فوري بيد الطفل ورحت أعرضه على أئمة المساجد وحوانيت الباعة وكل من ألقاه في طريقي حتى نكره أهل المدينة , ولم أمسك بأول الخيط فأتتبع آخره

قال عبد الرحمن وقد فغر  فاه :

ـ عجيبٌ والله أمر هذا الطفل !! .

و سُرَّ الحاج إبراهيم باستسلام الرجل للحيرة والاستغراب , فانبرى يكمل حديثه :

ـ ثم داهمني هاجس ارتحت إليه .

ـ ما هو ؟

ـ قلت استودعه عندك تأنس به , وتطرد به وحشة دارك , ولا بد أنك ستسعد به , ولا ضير أن تتخذه ولداً . فينقلب بيتك المهجور جنةً إذا امتلأ بضجيج طفل وادع  .

قاطعه عبد الرحمن وقد انقلبت سحنته , وانفرجت أساريره وارتسمت بسمة على شفاهه :

ـ لكم أتمنى أن ينتهي إليَّ فأتخذه ولداً .

وجاءت المرأة وقد سمعت طرفاً من الحديث , متهللة تطير من الفرحة فلم تتمالك نفسها وراحت تقول :

ـ أجل ...أجل ... سوف نتخذه ولداً  . هو في أعيننا أيها الحاج  , ثم وضعت الخوان وسط الغرفة وصفت فوقه طبقاً من المعجنات مع أطباق من اللبن والمرق والخبز ووضعت إلى جانبها كأس ماءٍ ثم انصرفت إلى  الطفل تحضنه وتقبل جبهته , والطفل ينفر منها ويحاول الفلات من بين أذرعها .

ـ لكن يا حاج , ألا يمكن أن يظهر له أهل غداً أو بعد غد ؟

فقال الحاج بمزيد من الثقة :

ـ  هب أن ذلك حدث حقاً يا عبد الرحمن , فمن ذا يلومك وأنت الذي أويت الطفل المشرد و أحسنت رعايته ؟ ثم ما أخالهم يقتطفون الطفل من بين يديك إلا بعد أن يملئوها مالاً , جزاء صنيعك .

وزالت عن عبد الرحمن وساوسه وهدأ باله ,ثم التفت إلى الحاج وقال له :

ـ بوركت من أخ كريم . تفضل يا حاج وادن من المائدة .

لكن الحاج إبراهيم التفت إلى الطفل فوجده عابثاً يعاني لفحة من لفحات الحمى بعد أن زوده الطبيب بشيء من الدواء , والمرأة لا تزال تحوطه بأذرعها . فاستطرد قائلاً :

ـ ثم إني وجدت الطفل على شيء من السقم , فسعيت به إلى الطبيب فعالجه و أعطاه هذا الدواء , فلا بد أن يداوم عليه أياماً .

فاختلط صوت الرجل بصوت امرأته وهو يقول :

ـ هو في الحفظ والصون , لا عليك يا حاج فهو منذ الساعة ولدنا .

مدَّ الحاج إبراهيم يده إلى المائدة , فتناول كسرة من الخبز وغرفة من المرق ودرَّة من اللبن , ثم تظاهر بالشبع فمدَّ يده إلى الكأس فشرب شفافة من الماء ثم تراجع فاتكأ إلى ذات الأريكة وهو يحمدل , وأخذ يثني عليهم ويشكرهم على حسن الضيافة . ثم دسَّ يده في جيبه فأخرج قليلاً من النقود وضعها على البساط وهو يقول :

ـ وهذه من أجل أن تكرمانه وتعيلانه وتحسنا تربيته ,و إني سأمدكما بالمال حيناً بعد حين , لعلي أشترك معكم في الأجر والثواب . ونهض الحاج وكانت لحظات حاسمة وقف فيها التاريخ ليتأمل قسوة القلوب البشرية حينما تتحدى الحجارة فإذا هي أشد قسوة , بينما وقف الحاج إبراهيم أمام قلبه المتوقد حقداً , وأمام ابن أخيه الصغير الذي يشكو الغربة والحمى وأفلت من يد المرأة وتمسك بأسماله , وأمام شيطانه الذي يغذيه حقداً .

وأومأ إلى المرأة أن تلتقط الطفل وقال مبتسماً :

ـ إنه يحسبني من ذويه .

وأحاطت المرأة بالطفل , حينما أسرع الحاج إبراهيم فتوارى خلف الباب الخشبي , تاركاً الطفل يصيح من ورائه ويبكي .  

سبحان الله , هذا طفل يبكي فراق عمه , ويتمسك بأسماله تمسكه بأمه التي أرضعته حباً وتعلقاً وبراءة , وهو يشعر في عمره ذاك بالأنس للرجل الذي اعتاد على رؤيته وينفر من الوجوه الغريبة . وما كان يعرف الكلام بعد , ولو عرفه لفضح سر الحاج وكشف أمره .

وذاك رجلٌ عصر الجشع قلبه فأخلاه من أثر الرحمة , حتى طاوعه قلبه ..دون تردد .. على أن يقذف بالطفل ـ ابن أخيه ـ إلى حضيض الفقر ليضيع في الناس ويضيع في التاريخ  . ثم يعود إلى القرية مرفوع الرأس , مرتاح البال ميت الضمير ,مزهواً بنصره على الطفل . مبتهجاً بانضمام أرض رشيد إلى أرضه . هذه هي معاني العداوة , في كل زمن وعلى مر الأزمان .

ولما عاد الحاج إبراهيم إلى القرية هرع الناس إليه تتقدمهم أم الطفل وابنتها كلستان , ووقفوا قبالته مشدوهين تتقاذفهم الظنون والوساوس , وظل كل واحد منهم يسأل نفسه ذلك السؤال الذي ظل قاسياً عبر تاريخ هذه القرية :

ـ أين شيار ؟ ؟    دوت صيحة المرأة في كل مكان فأرعشت القلوب وحبست الدماء في العروق . وجمد الناس كأن على رؤوسهم الطير . وبدأت دمعة تتلألأ  بين أهداب كلستان .

ـ أين شيار ؟  دوت الصيحة ثانية . وبان الشيخ مصطفى يخترق الصفوف حتى وقف أمام الحاج الذي طأطأ رأسه لا يعرف كيف يبدأ بالكلام .

 ـ أين الولد يا حاج إبراهيم  ؟

رفع الحاج إبراهيم رأسه وقد أظهر حزنه وأسفه , فراح يضرب كفاً بكف , ويحوقل ويدير رأسه يمنة ويسرة , حتى تشجع وقال :

ـ لقد ضاع الولد .

برقت دموع دافئة في عيون كلستان الصغيرة , وهرولت إلى أمها تشدها بعنف إلى صدرها كأنها أحست بأن هذا الضياع سوف يطالها . وراحت تبكي في صدر أمها , وأمها تذرف دموع الأسى كأن هذه الدموع ما هي إلا عصارة قلبها يذوب رويداً رويداً .

 وللإنسان في الحياة أنوار تنير له دروب الحياة , وتعينه على تخطي النوائب , فإذا ما انطفأت هذه الأنوار تباعاً وجد  الإنسان نفسه وجهاً لوجه مع ديجور الحياة , وإذا به لا يقوى على المضي خطوة واحدة , وإذا بالنوائب تقصم ظهره فيقع خائر القوى قد نالت منه الخطوب  ومزقته النائبات . وهذه المرأة انطفأت عنها أنوار الحياة حتى لم تجد منها إلا الجذوة الأخيرة  التي لا تكاد تقوى على شيء . وأيقنت في عميق نفسها أنها انتهت لا محالة , فلم يهمها من أمرها ما آل إليه , بل أهمها وأغمها ما ستفضي إليه حال الطفلة الصغيرة بعد أن انطفأت عنها تلك الأنوار . وأية يد قوية ستشد على أزرها وتقوي من عزيمتها , ومن يدري لعلَّ الأيام تخفي شيئا من شرورها لهذه المسكينة أيضا , وعلمت في قرارة نفسها أن نفساً دنيئة تؤامر على عائلتها .  ويداً وضيعة تمتد لتقتلع ما غرسته يد رشيد . وهي في حالها هذا لا تقوى البتة على قطع هذه اليد فضلاً عن ردها .

اجتمع في مضافة الحاج إبراهيم رهْط من رجال القرية من بينهم الشيخ مصطفى كالو الذي احمر وجهه وانتفخت أوداجه وارتعشت جميع أوصاله , ولم يدرِ الناس ما أسكته , ومضى نفر يتهامسون فيما بينهم من قائل يقول :

ـ كان لابد للحاج أن يمكث في المدينة حتى يجد الطفل  .

وآخر يهمس :

ـ وما يدريك , لعله طاف أرجاء المدينة كلها , وجاب أطرافها .

وآخر يقول بسخرية :

ـ ولعل الطفل حلق في سماء المدينة ومضى بعيداً عنها .

 بعض تلك الهمسات كانت تسقط ثقيلة على مسامع الحاج إبراهيم , فتضطرب ملامحه ويتغير لونه ويزدري الناس دون أن ينطق بحرف .

وشيء ما كان يدور في خلد الشيخ مصطفى , فعلى حاله تلك كان يرتب بين بنات أفكاره ليخرجها بصورة متكاملة يشرح بها ما حدث . فرفع رأسه عن وجه محمر وتنحنح بقوة ثم قال :

ـ أيها الناس احفظوا ما أصاب العرب منذ أيام , وخذوها عبرة . فوالله ما لحق بهم ما كان إلا لهوانهم على أنفسهم  . وما أغرى السَّفاحَ بهم إلا ما أدركَ منهم من الرضا بالذل ـ وقد كان ـ  فلم يتحرك منهم أحد , وتقبلوا المصيبة على مضض وهم صاغرون  .

أرأيتم إلى أرضكم إن أجدبت والسماء من فوقها أمسكت , وقلوبكم في صدوركم حنت إلى سحابة كريمة تغدق من عليائها قطراً من الغيث تعيد الأرض سيرتها الأولى , كذلك أحنُّ إلى من يغدق على عقولكم جذواتٍ من النور تمحق ظلمتها وتطرد منها بقايا القحط والجدب .

إن نفوسكم أجدبت ولم يبق في زواياها المظلمة سوى نثرات من تراب أرضكم المجدبة ولم تنتبهوا يوما ً إلى حالكم والأرض هذه مرآة لنفوسكم والحال هذه نتيجة لتدبيركم . وإني متربص بكم يوماً كيوم العرب  , فيسلط الله عليكم ظُلاَّماً يأخذونكم بلا رحمة .

تنهد الحلج إبراهيم , وكان وجهه قد احمر , وعلم منه الناس غيظه الشديد للشيخ  , وانتظروا أن يمسك عليه بقية الحديث ,إذ وجدوا الشيخ ينكل بهم . واتجهت الأنظار إلى الحاج إبراهيم وهو يحدج الشيخ بنظراته الغاضبة , ومرت بطيئة لحظة سكون كان الحاج إبراهيم قد قطعها قائلاً :

ـ خفضْ عليك أيها الشيخ , فليس فينا سفاحٌ ولا زانٍ فبأي الجرائر سيسلط الله علينا الظلاَّم ؟

فأجابه الشيخ قائلاَ :

ـ بجريرة قسوة القلوب .

وجمد الدم في عروق الحاج إبراهيم وبدا كأنه يختنق ,وشرد فكره قليلاً يتذكر ما كان منه , ويستبعد أن يكون الشيخ قد اطلع على أمره بوسيلة من وسائل الشيوخ . ثم جمع نفسه وقال :

ـ هذه طبيعة خلقها الله فينا  ما لنا عليها من سلطان  . لكنا لم نجعلها في معصية .

ـ بل تبدأ المعاصي بقسوة القلوب .

ـ إلامَ ترمي يا شيخ مصطفى؟

ووجد الشيخ في نفسه قوة هائلة جمعها كلها لتعينه على النطق بما يدور في خلده  والجهر بهاجسه من خلال السؤال الثقيل الذي ألقاه على الحاج :

ـ أين شيار ؟؟؟

وعادت لحظات السكون لتغشى المجلس , وتقلبت النظرات ما بين الحاج إبراهيم والشيخ كالو , وظل الشيخ طامتاً جامداً ينتظر الإجابة , بينما عاد الحاج إبراهيم  إلى وسواسه , وكاد يجزم بأن الحاج قد اطلع على سريرته , إن لم يكن عن طريق الجن فبفراسته .لكنه استدرك الموقف فتنحنح واصطنع سعالاً جافاً , وحاول أن يربط جأشه ويمسك أعصابه ويستحوذ على عقول الناس بنبرات هادئة مشوبة بالأسى والحزن  فقال :

ـ  ما حزنت على أحد حزني على ابن أخي , وما فارقت فيه إلا الأمانة التي أودعنيها أخي قبل أن يفارق الحياة  , وإني لا أدري بأي وجه ألقاه يوم القيامة . قال كلامه ثم أخفى وجهه متظاهراً بالبكاء .

فتأثر بعض القوم بحاله , وأخفض آخرون رؤوسهم خشوعاً أمام الموقف العصيب , وبرقت دموع في بعض العيون , ودس َّ الشيخ مصطفى يده في جيبه فأخرج سبحته الطويلة وراح يحرك حباتها بعنف  . وسادت لحظات صمت لم يكن أحد من القوم يود قطعها .

فبقيت هكذا حتى همَّ الشيخ بالانصراف فنهض الباقون يتحينون الفرصة , وتركوا الحاج إبراهيم لوحده يتميز غيظاً من هذا الشيخ الداهية .

 وما بين بكاء أم الولد وخوف الطفلة كلستان تقلبت الأيام التالية ثقيلة بطيئة تتسم بالسواد الحالك , حيث لم يكن أمام كلستان سوى أمها التي كانت تلجأ إليها من وطأة الحزن فتجدها منهارة من شدة البث . وقد كانت نساء بيت الحاج إبراهيم أقل غلظة وأرحب صدراً من الطاغية . فها هي ذي عائشة وأختها روخاش تتألمن للمصاب ولا تبرحن كلستان وأمها . وها هي زوجة الحاج تجالس أم الفقيد تريد مواساتها وتخفيف الأمر عليها وطرد الوساوس من حولها .

أما الحاج إبراهيم فقد كان يريد أن تدرج هذه الأيام بسرعة لتنسى سابقته . وتراه لجأ إلى إشغال أهل بيته بشؤون الأرض وما سواها ليصرفهم عن الأمر , كما لجأ إلى إشغال رجال القرية  في أحاديث المساء ببركات الشيوخ ومعجزات السلاطين . وإن كان نجح في أمره هذا مع رجال القرية فإنه لم يفلح البتة في إشغال أم الولد عن ولدها الضائع , فها هي ذي تتردد إليه بين الفينة والأخرى , تتوسل إليه أن يمضي  إلى المدينة باحثاً عن الولد , عسى أن يجده في أحد المساجد يحتفظ به شيخ جليل يأبى أن يفرط فيه , أو يهديه أحد التجار إلى مكانه في بيت من بيوتات المدينة حيث اهتمت به عائلة كردية هناك  وعنوا به العناية الفائقة منتظرين من يطرق عليهم بابهم يسألونهم عن ولد تائه .

وكان الحاج إبراهيم لا يعنفها خشية أن تشك في أمره , بل كان يهدئ من روعها ويطمئنها  ويعدها بأنه قبل أن يبزغ الفجر من الغد سيمتطي حصانه آماَ أرضروم , وإنه لن يكتفي بأرضروم فحسب بل سيجوب ضواحيها  و دساكرها وقراها القريبة . وإنه لن يعود حتى يجد له أثراً أو يمسك بأول الخيط .

وتفرح الأم حينما تفيق في الصباح من الغد وتعلم أن الحاج إبراهيم قد مضى حقاً إلى المدينة , ويفعم صدرها بالأمل وتنشط طول ذلك النهار . وتجد البسمة طريقها إلى وجه كلستان وتحلق بها ذاكرتها بعيداً إلى حيث كانت الأيام الخالية , وحيث كان أخوها شيار  يعبث بأثاث الدار ويملأ الحياة ضجة وحركة , ويتمادى بها الخيال فتجده قد عاد من المدينة يروي بدهشة ما حدث معه , وينبض قلبها الصغير نبضات الحب والشفقة والطفولة وتستفيق لتجد أمها لا تزال تنتظر .

وأحيانا يطول بها الانتظار لأن الحاج إبراهيم عندما يغادر القرية فإنه يتوجه في أغلب الأحيان إلى قرية في تلك المناطق  الجبلية النائية , وما من قرية إلا وله فيها خلَ أو صديق , فيمكث هناك بقدر ما يحبسه صاحبه يوماً أو يومين أو أكثر , يجد في بعده عن القرية متنفساً ومستراحاً , حتى إذا انتهت زيارته وعاد أدراجه إلى القرية تكابدت نفسه مشقة الخداع والكذب وتذكر جلَّ ما سيواجهه من المنتظرين المتحرقين شوقاً لعودته عسى أن يجلب لهم أخباراً سارة .

وربما يقصد الحاج إبراهيم حقاً مدينة أرضروم فيسير خلال شوارعها الضيقة متلكئاً ويتطلع إلى أسواقها . ثم يتوجه إلى حانوت " عبد الرحمن " ليجده هناك يخيط حذاءً بالياً أو يفترش الأرض بين أكوام الخردة والأحذية العتيقة ليستريح من عناء العمل . وتنبسط أسارير " عبد الرحمن " لمقدم الحاج إبراهيم وينتفض مهللاً حتى ليكاد يجذب انتباه أصحاب الحوانيت المجاورة .

ويقعد عبد الرحمن ضيفه في أنظف بقعة من حانوته مفتخراً ومتباركاً به . ثم يطلب منه أن يرافقه إلى البيت لتناول الغداء , لكن الحاج يعتذر كعادته , ثم يميل على أذن عبد الرحمن و يهمس في أذنه قائلاً :

ـ لا أريد أن يراني ولدك فيحسبني أحد ذويه فيتمسك بي كما فعل في المرة الأولى , فيكون ذلك شيئاً من دواعي التفرقة بينه وبينكم .

فيجيب عبد الرحمن :

ـ لا يكون ذلك إلا من دواعي الألفة بينك وبيننا يا حاج .

ـ بارك الله فيك يا عبد الرحمن .

ـ وقد سميته " جوان " يا حاج .

ـ آه … اسم جميل , يناسب ولدك ذو الوجه الجميل .

ـ ثم إن الولد قد وجد عندنا ما يجده عند أهله وذويه , فاطمأن ولم يعد يشعر بالغربة بيننا .

 ولم يكن الحاج إبراهيم يمكث طويلاً في المدينة ربما لأن أنفاسه تضيق كمن يصَّعَّد في السماء , فهو هنا قريب من جريرته لا يكاد ينساها . وما أن يربح المدينة حتى تنبسط أساريره ويثوب إلى رشده , حتى إذا شارف على القرية ثاب إليه الضيق والتبرم وراح يلفق ما سيقوله للمنتظرين .

وبعد مضي أشهر تذمر الحاج إبراهيم من إلحاح زوجة أخيه وقال لها ذات يوم :

ـ " افهمي أيتها المرأة , لقد ضاع ولدك وما له من أثر "

فتمسكت المرأة بأسماله وتوسلت إليه أن يعاود البحث عنه لكنه نهرها قائلاً :

ـ أما لنا من شغل سوى البحث عن ولدك .

انتهت قصة البحث عن الولد الضائع وهدأت المرأة وركنت من لهفتها وأحلامها وقبعت في حجرتها مصدومة بالأمر الواقع , حيث انتهى إليها أن شيار لن يعود أبداً ما دام الحاج إبراهيم حياً يرزق . وكفئت على طفلتها توليها الرعاية والاهتمام لتبقى شعلة نور خافتة تضيء لها بقية الطريق الباقية

ودرجت الأيام بسرعة , وغاب عن الطفل كل ماضيه  وما يتعلق به , حتى اسمه . ونشأ في ذلك الحي على أنه ابن عبد الرحمن , ودخل الكتَّاب واختلط بلداتهِ من أبناء الحي وبدا عليه النبوغ والذكاء منذ ليونة أظفاره , وفرح به عبد الرحمن فرحاً كبيراً وتعهد برعايته على أحسن وجه وتعليمه ما استطاع إلى ذلك سبيلا في زمن قلَّ فيه العلم وحورب , فنجح إلى حد كبير مع رقة حاله في تعليم الولد حتى إذا اشتد أزره وقوي ساعده كان منه ما لم يتوقعه عبد الرحمن , وقد رقَّ عظمه وشاب شعره  وكَلَّ بصره , حاله حال العجوز التي تشاطره هموم الحياة وتكابد معه مشقة تربية هذا الولد , حتى إذا أينعت ثماره وحان لهما التمتع بها وجدوه لا يعبأ بهما وإنما يرغب في فراقهما والتطوع في الجيش وهما لا حول لهما ولا قوة . غير أن ذكاء جوان ومبلغه من العلم مكناه من إثبات الذات حتى في الجيش . وعاد يوماً إلى أهله في المدينة بعد غياب أشهر ليخبرهم انه قد صار ضابطاً في الجيش التركي , وقد علَّق على صدره عدة أوسمة . وما كان ذلك ليبهج عبد الرحمن وزوجه , فهما لا يبغيان من الدنيا سوى أن يبقى إلى جانبهما ليسعدا به بقية أيامهما في دنيا كانت قاسية عليهما في الأيام التي انصرمت . ولطالما طلب عبد الرحمن من جوان أن يبقى بجواره ويترك أمور الجيش لأهله . إلا أن جوان كان يرد عليه بلهجة القائد الغيور : " يا أبت : هناك أمورٌ لا يقوى عليها سواي في الجيش  "

فيرد عليه عبد الرحمن قائلاً : "  دعك الآن من أمور الجيش يا ولدي وأشفق بي وبأمك " .

كانت تطلعاته بعيدة المدى لا يفهمها أحد ولا يدركها من كان يعيش معه من أصحابه ولداته , فأنى لعبد الرحمن أن يدركها وقد منعته الأيام لقياه إلا ما ندر , فترى جوان قادما ً على عجل يمضي معه يوماً أو يومين , يملأ عبد الرحمن وزوجته عيونهما من إشراقة وجهه وقد بدا لهما أثر الشمس فيه . ثم لا يلبث جوان أن يقوم بعد الفجر بقليل مودعاً , فيشيعانه حتى نهاية الطريق وهما يتوسلان إليه ألا يغيب طويلاً . يا لسخرية القدر , حرم هذان الشيخان من طفل يبهج لهما أيام الشباب , ويملأ لهما دار الزوجية بالحياة والحيوية حتى إذا ساق لهما القدر تلك الهدية تسليهما عن كربهما ردحاً من الزمن جاءت الدولة فأثبتت سخرية القدر , وهاهما الآن في أمس الحاجة إلى جوان بعد أن أودعا فيه عصارة عمرهما , وها هو جوان يغادرهما ويعدهما ألا يغيب طويلاً , ويرجو منهما ألا يغضبا منه فإنه إنما يؤدي الواجب الذي ينوء عنه سواه .

ولم يخف على رفاق جوان اتصاله ببعض العلماء والمشايخ ممن كانوا ينيرون عقول الشباب ويفتحون أذهانهم إلى الواقع الذي يمر به الشعب الكردي في تركيا ومصير الإمارات الكردية والعشائر المشتتة  وإمكانية المطالبة ببعض الحقوق في ظل هيمنة السلطة الدينية وسحق كل المعتقدات والقوميات في بوتقة الديانة العثمانية . ولما تقدمت به الأيام وبدأت مرحلة ولادة تركيا الجديدة , كان جوان أحد أهم الضباط الذين حذروا زعماء العشائر الكردية من خطر أتاتورك . وكثيراً ما كان يردد مقولته على مرأى ومسمع الآغاوات و رؤساء العشائر  : "  احذروا صاحب القبعة فإنه ذو وجهين ....."

وإن كان قد استطاع أن يبث أفكاره هذه في عقول بعض الضباط الأكراد وبعض المثقفين من أصحابه إلا أنه لم يكن قادراً على إقناع الكتلة الأقوى من رؤساء  العشائر وزعماء الطوائف وأرباب الأمور آنذاك .

ويذكر له أيضاً أنه بقي أياماً وليالي يجوب الضياع والدساكر مع ثلة من رفاقه سراً ليوضحوا للناس خطورة ما دعا إليه أتاتورك دعوته المشؤومة تلك بالقضاء على الأرمن كونهم يدينون بغير دين الإسلام . وحين اعتبر الكرد أخوة في الدين وتقع على عاتقهم مسؤولية حفظ الدين من هؤلاء المارقين .

ولكن أتاتورك لم ينجح في دعوته تلك , لأن الكرد قد عاشوا جنباً إلى جنب مع الأرمن وشاطروهم الرغيف الأسمر , وما هانت عليهم الخيانة , فكانت أغلب العوائل الارمنية الفارة من ظلم أتاتورك تلجأ إلى القرى الكردية , وحتى الفارّون إلى الأراضي السورية لجؤوا هناك إلى العشائر الكردية  واحتموا بها . كل هذه الأحداث كانت حرية أن تشغل جوان عن أبويه المزعومين , إلا أن حنينه لهما كان يغلب على فؤاده أحيانا ً فتضعف همته ويكتئب حاله , ولطالما كان يفضي بمكنون صدره لصديق له من خاصة أصدقائه اسمه" فرهاد" من قضاء " آمد " , عرفه مذ انتقل من أرضروم وسكن في هذه المدينة العريقة . لكنه فيما بعد جعل يتقرب منه ويتودد إليه لمِا رأى فيه من نبالة الأخلاق وحسن المعشر , و فرهاد  هذا كان قد انقطع عن الدراسة في مرحلة مبكرة , ولم تسنح له أحواله أن يكمل تعليمه أو أن يسلك في سبيل من سبل الدولة فعاش غنياً عن الدولة وعن الناس وعن السلطان , وراح يلملم العلم من هنا وهناك , من حلقات العلماء تارة ومن مجالس العامة تارة أخرى . شاب أميل إلى الطول , اسمر البشرة ملتف الشارب فاحم اللحية قلما يحلقها , مقطب الجبين في عينيه شرارة حقد أبدية .

وتوطدت الصداقة بين فرهاد وجوان حتى غديا أخوين لا يفترقان , وعلم الناس في ذلك الحي أن الصداقة ما بين هذين الشابين اليافعين قد بلغت مراتب عالية . وكثيراً ما كان جوان يسرُّ لفرهاد بكثير من أمور الجيش ونواياه , وكان يكِل إليه بعض المهام السرية للغاية , والتي لا يؤتمن على سرها في نظر جوان إلا فرهاد  . وفي الآونة الأخيرة , حين برزت مشكلة الأرمن وبدأت الفتنة تنجلي أمام أعين المستنيرين , جعل فرهاد يسعى سعيه الحثيث في أرجاء " آمد " وضواحيها وقراها لإقناع الناس من الكرد أن هذه مؤامرة يكيدها أتاتورك , وما خفي عنهم أدهى وأمر . وجاء يوم أوكلت لجوان مهمة في غاية الخطورة , وهي أن يمضي بعدد من المعتقلين الأرمن من سجن " آمد " إلى السجن المركزي في أنقرة  . ومضى جوان على رأس القافلة يحرسها عدد من الجنود المدججين بالسلاح . وكان جوان قد أسرَّ لصديقه فرهاد بمهمته تلك وأوكل إليه بعض المهام التي كانت في غاية السرية

 ..................................................  3  ................................................................

 أرسلت الشمس أشعتها الحمراء المذهبة فانتشرت على الهضاب المحيطة بالقرية وتسللت عبر أغصان الشجر فأيقظت الطيور الغارقة في أحلامها ونبهت العوالم بقدوم اليوم الجديد , وراحت الهدأة تلملم بعضها البعض لترحل بعيداً ويحل محلها رويدا رويداً صخب الفلاحين وعجيجهم وهم يهبون من كراهم ويحملون زادهم ويهرعون إلى الحقول . وعندما بدأت أزقة القرية تكتظ بالفلاحين والفلاحات كانت أم كلستان تزيح الدثار عن ابنتها التي لم تكمل أحلامها بعد , وراحت توقظها برفق . ولما فتحت كلستان عيونها كانت أمها قد أعدت شيئاً من الزاد يعين في دفع الجوع في منتصف النهار , وملأت جرة من الماء تكون انيساً لهم إذا اشتد لهيب الشمس . وخرجت كلستان مع أمها لتجد الناس يتوجهون إلى الحقول فدب َّ اليأس في صدرها وشعرت بثقل النهار منذ أوله , وقد كانت خطواتها الثقيلة خير دليل على مللها , فهناك سوف تجد نفسها واحدة من عشرات العاملات يجهدن أنفسهن في قلع الشوك اليابس وتقليب التربة وقلع الأعشاب من حول أشجار الزيتون الفتية , وقد بدت معالم الخشونة على أجسادهن حتى طردت منها معاني الأنوثة  , حتى أنها تعجب من أصواتهن التي بدت تشبه أصوات الرجال , وهن لا ينفككن عن الثرثرة تحت لفح الشمس الحارقة . فكانت تجد نفسها أصغر بكثير من أن تقوم بجزء يسير مما تقوم به الواحدة من هاتيك العاملات  اللاتي تعملن في أراضي الحاج إبراهيم مقابل القليل من النقود , لكنها كانت تحمل نفسها أكثر من طاقتها حين  يقدم الحاج إبراهيم ليراقب العمل فقد كان الحاج إبراهيم مع ما يعرفه الناس من الوقار ورجاحة العقل وسعة المنطق  لا يفتأ ينهال على كلستان بالضرب المبرح حتى يعلو صراخها ويسرع احد الرجال لينقذها من بين يديه . وقد عرفت كلستان في قرارة نفسها أن الأمر سواء بسواء إن هي عملت بجد أو تقاعست وتكاسلت , فهي مضروبة لا محالة لأتفه سبب سوف يختلقه عمها  . ولقد كانت كلستان ترتعب لمقدم عمها وترتعش أوصالها وهو يقترب منها , ثم تتفاجأ بسؤاله : " لم تأخرت عن رفيقاتك يا ملعونة ؟ ". أو " لماذا لم تحسني العمل ؟ " . وما هي إلا لحظات تغمض كلستان عينيها حتى تصلى نار هذا الحاج وتكوى خدودها من صفعاته  . وما حييت هذه المسكينة فإنها لن تنسى ذلك اليوم المشؤوم  الذي أشفقت فيه أمها عليها فلم توقظها , بل أبقتها نائمة في فراشها وهي آنذاك ابنة العاشرة , فشعرت كأن أحلامها تطول وجسمها يسترخي ويمتلئ بالراحة كوردة أشبعت بندى الصباح  وهي تتمطى وتتقلب في فراشها يمنة ويسرة . وأدرك الحاج تخلفها عن والدتها فجاءها مغضباً ورمى عنها الدثار وأمسكها من شعرها وجرها بعنف وهو يغلي غليان المرجل , والشرر يتطاير من عينيه . فما تدري كلستان أكانت كلماته النابية أشد وطأة عليها أم صفعاته القاسية . ولم يكتف الحاج بذلك بل أمرها أن تأخذ جرة ماء كبيرة إلى الحقل حيث ينتظرها ابن عمها جومرد وقد اشتد به العطش . فذهبت وملأت الجرة  ووقفت عند باب الدار . لقد كان الحقل بعيداً وكان الطريق إليه أصعب من أن تهتدي إليه فتاة في العاشرة لوحدها , وأهول من أن تتجرأ على السير فيه بمفردها . فقعدت تبكي عند باب الدار وهي لا تجرؤ على أن تخطو خطوةً واحدة , فكانت ترنو إلى مضافة الحاج بعينٍ دامعة وترقب الطريق إلى الحقل بعينٍ حائرة  . وما استطاعت أن تتخير أحد الأمرَّين , أهوال الطريق وعقاب الحاج , فقادتها غريزتها الطفولية إلى أن تختبئ في ركن من أركان الدار وتصرف نظرها عن الأمر علَّ معجزة تحدث . وبعد الظهيرة عاد جومرد يرتعش من الغضب والظمأ , فلما أوقفه والده الحاج وتقصى منه الأمر قال جومرد :

ـ يكاد الظمأ يقتلنا يا أبتاه , لقد نفد ما كان معنا من ماء وقعد جميع العمال بلا حراك .

ففغر الحاج فاه دهشاً وقال :

ـ لكني بعثت إليكم بجرة ماء منذ أكثر من ساعة .

ـ لم تصلنا يا أبتاه , مع من بعثتها ؟ .

ـ مع كلستان .

ـ هذه الشيطانية  ؟ تراها تلعب الآن في مكان ما .

وكان الحاج قد وثق بكلستان إذ عهد إليها أمر الماء , فالبنت تخافه ولا تكاد تجرؤ أن تعصي له أمراً , فلما علم أنها قد عصته , وفي أمر كهذا , جُنَّ جنَّانه ورقص شيطانه وراح يصيح بصوت صهصليق : " أين الملعونة... أين الملعونة كلستان .... كلستان.

ووقع صوته على أذن كلستان ثقيلاً مخيفاً , وأدركت حينذاك أن الدائرة قد أحاطت بها وأنها مقدمة الآن على ألوان جديدة من العذاب , وحقاً فإنها لن تنسى ألم ذلك اليوم ما عاشت .

وسمعت كلستان من أمها ذات ليلة أن الحاج إبراهيم قد عقد العزم على تخفيف اليد العاملة عنده إذ صار بمقدوره الاعتماد على نساء البيت ولا ضير إن جار عليهن قليلاً ليتخلص من دفع الأجور للفلاحين والفلاحات , وإن كان ذلك الأجر زهيداً للغاية . وتخيلت كلستان مقدار الشقاء الذي ينتظرها , لكنها مهما تخيلت يبقى أفق خيالها قاصراً عما يجول في رأس هذا الحاج القاسي , وبعد أيام قلائل كانت نسوة الدار تتوجهن إلى الحقل وحدهن بعد أن صرف الحاج إبراهيم جميع الفلاحات من حقله ,وأبقى الفلاحين الذين كانوا يحرثون الأرض بالثيران إذ لم يكن بمقدوره الاعتماد في ذلك على ولده الوحيد جومرد . وكانت ابنتا الحاج إبراهيم عائشة وروخاش سواء بسواء مع كلستان  , فلم يكن الحاج يميزهما في شيء عنها وعن باقي الفلاحات  , ففي نظره تتساوى النساء جميعاً ولا تتميز واحدة عن الأخرى  . وربما أرضى هذا الأمر شعوراً لدى كلستان وغلب على ظنها أن فجاجة الحاج وإجحافه في حقها لا تنبع من كونها يتيمة فهاهو ذا يجحف أيضاً بحق بناته وزوجه , واستقر في عميق فكرها أن هذا الرجل ما ينبغي إلا أن يكون هكذا , ومع الجميع طبعاً من طبائعه التي خلقت معه وجبلت مع طينته . وعندما يباع المحصول في آخر السنة لا تجد قطعة ذهبية واحدة طريقها إلى جيب كلستان أو والدتها , فكل القطع النقدية والذهبية  تجتمع في خزينة الحاج . وهو بدوره يمسكها ليدخر منها ما يعوله على المصروف طوال السنة .

 وأطفأ الناس مصابيحهم ليرقدوا إلى النوم المبكر وهدأت القرية من عواء الكلاب وأصوات الرعاة والفلاحين المتأخرين في الحقول , لكن صوت الرياح الهوج التي تستمر هنا صيفاً و شتاءً لا يزال مزعجاً لآذان الناس ولألسنة النار المتراقصة في المصابيح المختبئة في المشاكي .

زحفت كلستان بجسدها  حتى تلاصق مع جسد أمها ولفته بذراعها فأحست بشيء من الراحة والأمان فأخلدت إلى النوم في تؤدة ورفق.

هنالك غذى الشيخ مصطفى كالو مصباحه ثم نقله من المشكاة التي ينفذ إليها الهواء من خلال الشقوق في الباب الخشبي ووضعه فوق الرف الموجود في الزاوية الأخرى البعيدة عن الباب .وخرج بعد ذلك ليحضر كأس ماء من غرفته الأخرى التي يبيت فيها عياله ,ليقدمها لضيفه الشاب أصمان خليل .

قال أصمان بعد أن وضع الكوب على الأرض :

ـ لقد بلغ السيل الزبى يا شيخ مصطفى .

ـ أي سيل يا أصمان ؟ فقد كثرت السيول في أيامنا هذه .

ـ عنيتُ سيل أتاتورك الجامح الذي ما له من كابح .

ابتسم الشيخ وهو يقول :

ـ أوجزت وأعجزت . حقاً ما له من كابح .

ـ إنه يجرف تاريخنا وأعرافنا ليلقيها في الحضيض.

قال الشيخ متنهدا ً :

ـ إني لا آسى إلا على الشباب ينطلق إلى الغرب ليبحث عن نفسه . إنه لا يعود إلا بعد أن يبدل سيء الغرب بمحاسن الشرق .

قال أصمان وقد بدا في وجهه شيء من الحنق :

ـ بالأمس أمر بالقبعة ,وهدَّد لابس العمامة , واليوم يأمر بنصرة الدين  ويهدد الأرمن .

تأفف الشيخ وقال بنبرة هادئة حزينة :

ـ بل إنه يزيد بهم تنكيلاً  ويشرد بهم شرَّ مشرد ويذوقهم صنوف العذاب وألواناً من الموت , وظني به يريد تصفيتهم عن بكرة أبيهم , وما تلك الحجة التي ابتدعها إلا دليلاً على نواياه الخفية , فما أخاله في الغد بعد أن يفرغ من الأرمن إلا آت على الكرد .

قال أصمان :

ـ لكن غالبية الكرد غرتهم الأماني واندفعوا يناصرونه في حملته تلك؟

ـ وهذه هي الطامة الكبرى , إنه والله لم يأت ليقاتل من أجل الدين بل جاء ليهدم الدين , ثم يهدم الأخوة  ما بين أبناء هذا البلد حتى يتسنى له امتلاك زمام الأمور .

استمر النقاش ما بين الشيخ و ضيفه حتى ساعة متأخرة من الليل , وتشعب الحديث إلى أمور شتى تدور مجملها على السيول التي بلغت الزبى .

وكان سيل الحاج إبراهيم أحمد هو أحد تلك السيول , وكانت كلستان هي الضحية التي حاول كل من عثمان والشيخ  إيجاد حل لها

كان أصمان خليل أحد الشبان الذين كانوا يترددون إلى بيت الشيخ مصطفى, و كان من إحدى العائلات الفقيرة في القرية , يعمل في قطعة أرض صغيرة لوالده العجوز ، وينفق باقي أيام السنة في حراثة أراضي الملاك من أمثال الحاج إبراهيم و خورشيد اينالو الملاك المعروف في القرية المجاورة . مثاله في ذلك مثال اغلب الشبان القرويين الذين تمرنت أيديهم على دفع المحراث وتقويمه والتحكم في جهة الثور وسرعته لتكون الخطوط التي يخطها المحراث متناسقة متوازية , ترضي صاحب الأرض . ويضيق صدره الآن لما يرى ابنة رشيد تنمو نمو الأجيرات في بيت عمها دون شفقة ولا عطف , وكان يلح على الشيخ مصطفى في كل لقاء بينهما أن يمضي إلى الحاج ويذكره بأمر كلستان .

كان الشيخ مصطفى كالو يخفي عن الجميع انضمامه إلى جمعية استقلال كردستان , تلك الجمعية التي جمعت شمل كافة المنظمات والجمعيات السياسية الكردية ووحدت طريقها وجعلت لها هدفاً واحداً في تركيا , فكان على اطلاع بمجمل الأحداث السياسية التي كانت تدور آنذاك وكان قد حمّلَ نفسه مسؤولية نقل هذه الأحداث للسراة وإجلاء الغموض الذي يكتنفها , وتوعية سواد الناس الذين غالباً ما يخفى عنهم الجانب الآخر من الأحداث ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

وفي هذه القرية الصغيرة وجد الشيخ مصطفى أمامه أموراً عديدة بحاجة إلى حل , فعداك عن انبهار الناس بقدوم أتاتورك وبشاشتهم بشعاراته الطنانة , وانشغالهم بالواقع التركي عن واقع أنفسهم . فإنه يجد الظلم آخذاً مجراه في قريته بكل أريحية , فهذا هو الحاج إبراهيم وقد استولى على جميع ممتلكات أخيه رشيد  وبات يحرم كلستان و أمها من أدنى الحقوق , وهذه الطفلة اليتيمة التي مات عنها والدها بعد أن عهد أمرها إليه ووضعها أمانة في عنقه تعاني الأمرين في بيت الحاج وما لها يدٌ عليه , وأمها المسكينة التي تذوب حنقاً وبؤساً والتي طالما أسرت له بشقائها وطلبت منه أن يمضي في حلٍ لمحنتها .

فكان يمضي إلى الحاج أكثر من مرة ويحدثه بأمر كلستان وأمها , ويذكِّر الحاج بحديث رسول الله ( ص ) " اتقوا الله في الضعيفين , المرأة واليتيم " .

فيردُّ عليه الحاج أنه حفيظٌ على أموال أخيه قائمٌ على أمرِ ذويه .

فإذا حدَّثه الشيخ عن القسوة التي تلقاها كلستان أجابه الحاج بأن حياة القرية هكذا ... لا تأتي اللقمة إلا بالمكابدة والعناء .

ثم يغلق المنافذ على الشيخ حين يقول :" بارك الله فيك أيها الشيخ , فإني والله سعيدٌ بنصحك مقدرٌ اهتمامك البالغ بأهل بيت أخي وإني أعِدك أن أُصلح من أمرهم ما استطعت إلى ذلك سبيلا ".

ولعلَّ الشيخ مصطفى يشعر في بعض الأحيان بالحرج من تطفله الزائد وتدخله في خواص شؤون بيت الحاج إبراهيم  , وإنه عندما كان يسمع هذا الكلام المعسول منه يمضي مفعماً بالأمل مزهواً بإقدامه على رد  المنكر . إلا أن المنكر لم يكن يرد والواقع لم يكن يتغير والحال تزحف من سيء إلى أسوء .

 و أحست كلستان ذات يوم أن أمها باتت تتنفس بصعوبة كأنها تتنفس من خرم إبرة , وغشي وجهها شيء من الشحوب , فكفئت تسأل أمها بقلق :

ـ ما بك يا أماه ؟ تبدين على غير هيئتك .

فردت أمها بصوت متحشرج :

ـ لا عليك يا ابنتي ,فما أظنها إلا وعكة لا تلبث أن تزول .

ـ لكن يا أماه لا بد أن تستلقي في الفراش حتى تزول هذه الوعكة .

ـ أنَّى لي بذلك يا بنيتي , فالأرض لا تمهلنا , فإن أمهلتنا فَعَمُّك .

فتطأطئ كلستان رأسها تريد أن تخفي دموعها العذراء الملتهبة التي إن سُكبت على عمها أحرقته.

لكن هذه الوعكة تطول وتستفحل  حتى انهارت المرأة طريحة الفراش  , وكلستان جالسة عند رأسها تمسح عرقها المتصبب وتبرد حمرة جبينها ووجناتها بقماش مبلل وهي تصغي إلى الزفرات الملتهبة تصدر عن صدر يحترق , وقد بانت الوالدة عليلة بعد أن قدمت من الحقل بعد نهار طويل كان حره لافحاً وقد بدت الحمرة على وجناتها واستشعرت الوهن في جسدها ثم الصداع وانطرحت سقيمة , ودَنِفَت في فراشها أياماً حتى تململت من الحمى  . ولم تكن الحمى تلك التي تروح وتجيء , بل استقرت بين أضلعها وأبت أن تفارق جسدها .وعبثاً حاولت كلستان أن تنجدها بالخرق المبللة والدموع المنهمرة والتوسلات الجريحة ,وكانت بين الفينة والأخرى تمد أصابعها الناعمة إلى رأس أمها فتخللها بين الشعر الكثيف الذي قد وخطه الشيب وبلله العرق , ثم تهمس في أذنها بصوت رخيم : " أماه افتحي عينيك , كلميني فمالي أحد سواك " . لكن الأم لا تعي شيئاً ولا ترى إلا أن تعالج الحمى المستفحلة حيث كانت تنتفض وترتعد حتى أرمدت عليها الحمى فأغبطت ثم أطبقت عليها وأحرقتها . وتوسلت زوجة الحاج إبراهيم إليه توسلا مشفوعا بالتضرع والاستعطاف لكي يحضر طبيباً للمرأة المحمومة , وكذلك فعلت ابنتاه عائشة وروخاش , إلا أن الحاج كان يرد عليهن بنبرة حازمة :

ـ متى كان الطبيب يحضر من أجل الحمى ؟

لكنهن تخطرنه أن الحمى قد استفحلت وأن المرأة ترتعد في فراشها , فيرد بلا مبالاة :

ـ إذا كانت لها بقية من حياة فإنها ستشفى و إلا فلا مردَّ لقضاء الله .

وتفشى خبر المرأة المحمومة في القرية , وجاءت النسوة لعيادتها , فلما وجدْن حالها علمْن أنه لا مردَّ لقضاء الله . وسقط الخبر في أذن الشيخ فهبَّ من فوره وسعى إلى الحاج مغضباً , ولما اختلى به قال له :

ـ كيف حال أم كلستان أيها الحاج ؟

فحدجه الحاج وهو يقول في نفسه " ويحه يتدخل في كل شاردة وواردة " , لكنه اصطنع ابتسامة ساخرة وهز َّ رأسه قائلاً :

ـ إنها محمومة.

ـ ألن تحضر لها الطبيب ليعالجها؟

ـ وماذا سيفعل الطبيب لها , إنها تلفظ أنفاسها الأخيرة , لقد أطبقت عليها الحمى أيها الشيخ.

فأرشقه الشيخ وقال مغتاظاً :

ـ اتق الله أيها الحاج , اتق الله في المرأة , اتق الله في اليتامى, اتق الله في الأمانة . كان عليك أن تحضر الطبيب في أول يوم , واغرورقت عيونه ونهض مسرعاً وتوارى دون أن يلقي السلام . وظل الحاج قاعداً واستقرت عيونه على قطع من الحطب في زاوية الغرفة عند الموقد , وشرد فكره طويلاً دون أن يوقظه أحد .

ومرت أيام عصيبة كانت كلستان خلالها لا تكف عن البكاء بالقرب من فراش أمها , وقد كان الليل يطول بها وهي تصغي إلى أنفاس أمها الملتهبة وترمق الجسد المطروح على الفراش الرقيق , وتتفكر في الأيام القاسية التي عاشتها هذه المرأة المسكينة , فترى أنها عاشت أياماً سوداء حالكة  بعد وفاة زوجها , وقد جعل عمها الحاج إبراهيم بينها وبين الهنأة موبقاً فهي لا تجتازه أبداً .

وظلت تعمل في الأرض المرْت والجرْز حتى انقلبت إلى أرض طيبة غذاة . وما انفكت تجمع الحطب والحصب كي يستدفئ به أهل الدار وأضيافهم , وما فتئت تضع الخوان للضيوف وتصف عليه أطباق الطعام , فإذا ما انفض الضيوف وأكل أهل الدار وجدت لنفسها فتاتة الخبز وحثالة المائدة نصيباً مفروضاً لها .وهكذا مرت بها الأيام حتى أسلفت وجاوزت الأربعين , فما أشبهها بالجارية وهي السيدة هلك عنها سلطانها . وهاهي ذي بعد كل ذلك تسقط طريحة الفراش وما من يد تمتد إليها  , وما من أحد يبر بها وهي التي كانت تسهر الليل الدجوجي  لينام الجميع , وتعمل في الأوار وتحتمل السعار والصدى ليرتاح الآخرون . أهذه هي نتيجة السنين الطويلة والعمل الشاق والغدو مع إسفار الصبح والرواح مع زُلَف الليل , أهذه هي خاتمة العيش الضنك ونهاية البؤس ؟

وفي إحدى الصبيحات فتحت كلستان عيونها ليوم جديد فاستشعرت هدوءًا غريباً , فتمطت في فراشها متململة تطارد نعاس الصباح الثقيل , وقد كانت أحلام الليل تتبدى متشابكة في مخيلتها فما رغبت في استحضار أي منها , بل كانت تلقي انتباهها إلى أمر آخر . بدأت تفرك عيونها بلطف ثم فتحتها بانتباه : " رباه .... لا أسمع زفرات أمي !! "

رمت الغطاء عن نفسها وتمايلت على فراش أمها , أمسكت بالدثار الذي يغطي وجهها , رفعته بلطف وهول  حتى أسفر لها وجه أمها هادئاً وادعاً مائلاً للزرقة , شعرت بالهول , نكزت أمها دون أن تنبس بكلمة . نكزتها أخرى وأخرى . مدت يدها إلى وجه أمها , لمسته بأنامل مرتعشة , كان وجهها بارداً .... تعافى من لفح الحمى .

انتصبت واقفة  وراحت تصيح وتولول  فاجتمع كل من في الدار وراحوا يتفحصون المرأة الملقاة على الفراش واحداً تلو الآخر , فلما فرغوا جميعاً أدركوا أن الموت قد أراحها بعد الغم وفاضت نفسها وهدأ جسدها , فاغرورقت العيون وترقرقت وفاضت بالدموع , ثم ارتفع النحيب والنشيج بينما كان عويل كلستان يطغى على كل الأصوات .

 ...........................................  4  ...................................................

 جلس الشيخ مصطفى في مكان مرتفع من مضافة الحاج إبراهيم وجلس حوله عدد من رجال القرية تحت ضوء مصباح الكاز الموضوع على المشكاة , وقد تلألأت زجاجته وهي تعكس رقصات النار الخجولة . وهم محقونون بالأسى والحزن على وفاة المرأة المسكينة .فهاهم أولاء يشهدون زوال بيت رشيد واحداً تلو الآخر , فبالأمس  فارقوا رشيد  وهم يتعهدون في أنفسهم أن يبروا بذويه ويستأنسوا بهم ويتذكروا فيهم فقيدهم رشيد  ويستحضرونه بينهم من خلال إطلالة ولده الصغير شيار , ومن خلال عطفهم ورأفتهم بالفتاة الصغيرة كلستان  وبأمها المرأة الحيية العفيفة .

فما وجدوا أنفسهم فيما بعد إلا وقد سرق منهم الولد , فشعروا بعظيم الذنب ألقي على كاهلهم , وأحسوا بعميق الندم والخجل من نكثهم لعهودهم , لكنهم ألقوا تبعة ذلك على الحاج  إبراهيم وحاولوا أن يتملصوا من الشعور بالذنب . وهم كذلك إذا بالحمى تحرق أم الولد دون أن تمتد إليها يد المعونة والرحمة .

ماذا دهاكم يا رجال القرية ؟  هل شغلتكم الأرض عن البشر ؟ هل امتلأت قلوبكم بحبات القمح وذرات التراب فما عاد فيها مكان للعطف والشفقة ؟ة المسطينة أة الم

 ...... أين فيكم ذلك الوشاح الحي الذي يربط أناس القرية بعضهم ببعض حتى لكأنهم أسرة في قلب أسرة  في قلب أسرة , لا تنفك منها عقدة من عقد المحبة والإخاء . أينتهي بكم الأمر إلى هذا الحال فتتركوا زوجة رشيد  في يد الحمى دون أن تسألوا في حالها أو تفكروا في إحضار الطبيب أو معالجتها بأي ضرب من ضروب العلاج  .  لكنهم ككل الضعفاء احتجوا بضعفهم , وككل الفقراء احتجوا بفقرهم . وككل الخانعين اعترفوا بجبنهم . وأراحوا ضمائرهم أن المرأة ليست من تلك الفقيرات المعدمات بل إنها من مالكات الأرض التي يعملون فيها . ومن صاحبات البيت الكبير الذي لا يزالون يطعمون فيه , وهي زوجة أخ الحاج إبراهيم ـ زعيمهم ـ صاحب الرأي و المشورة .

لكن كل ذلك لم يكن يغني في الأمر شيئاً , فالمرأة رحلت إلى حال سبيلها ولم يبقَ سوى الملام والعتاب , وهذا هو حال البشر بعد الميت .

جَالَ الشيخ مصطفى ببصره في الوجوه العابسة فتبين الأسى والحزن على كل الوجوه , وشيء من الانحطاط  والذل يعصر النفوس , إن لم يكن على موت المرأة فعلى الطفلة التي بقيت وحدها من أهلها والله وحده يعلم ما أخفي لها  .

قال الشيخ مصطفى  :

ـ رحم الله رشيد .... ما بقي من رائحته إلا كلستان . ثم حدج الحاج إبراهيم واستطرد :

ـ ..... وإنا لنأمل فيها خيراً ,.... ونأمل منك يا حاج أن تبر بها .

فانتفض الحاج إبراهيم وأسفًّ النظر للشيخ وقال محتداً :

ـ إنها مثل بناتي أيها الشيخ , ما يكون لبناتي يكون لها وزيادة , وما يصير عليهن يصير عليها وأقل , وإنها في أعيننا .

 وخفَّض نبرة صوته وقال معاتباً :

ـ وهل يوصى الرجل بأهل بيته يا شيخنا ؟

فاتاه الجواب من الشيخ بما لا يتوقع ولا يشتهي :

ـ أجل ... يوصى بهم .

فأردف الحاج وقد احمر وجهه :

ـ إني لا أجد من هو أحرص مني عليهم .

فسأله الشيخ :

ـ وما كانت نتائج هذا الحرص ؟

وتنبه الناس إلى هذه الجملة إذ أيقظت فيهم شيئاً دفيناً طالما حاولوا أن يعبروا عنه , لكن نفوسهم الضعيفة كانت بانتظار الشجاع المغامر الذي لا يأبه بالنتائج .

وصمت الحاج إبراهيم برهة , وقد أدرك ما يرمي إليه الشيخ , فتظاهر بالحزن والأسف وقال :

ـ ما كان لنا أن نردَّ أمراً قدَّره الله .

فعاجله الشيخ بقوله :

ـ كان لنا أن نأخذ بالأسباب ونتوكل على الله .

اربدَّ وجه الحاج وامتعض كثيراً وقال بصوت مرتعش من شدة الغضب :

ـ كأني بك تريد أن تتهمني بشيء , فهل إلى إفصاح ؟

لكنه لم يدع الشيخ يجيب بل داهمه بوابل من كلام شديد :

ـ أنظر أيها الشيخ , لا تكن ممن يحسنون القول ويسيئون الفعل , إنك تتهم الناس وتنسى نفسك .

فانقبض الشيخ وغشيت وجهه سحابة قاتمة , بينما تسمَّر الرجال فيه مدهوشين .

ـ هل بدر مني ما ينافي قولي ؟

صاح الحاج إبراهيم دون تردد :

ـ إنك تتستر على عائلة أرمنية في بيتك , وتعرِّض القرية كلها لخطر داهم .

ارتبك الشيخ واحمر وجهه وظل ساهماً مخفض الرأس حيناً ثم قال وفي حديثه لكنة :

ـ هذا صحيح أيها الناس , وإني أدعوكم جميعاً إلى مثله .

فصاح الحاج إبراهيم :

ـ أتدعونا إلى التهلكة ؟ ... إلى مخالفة الدولة ؟ ... إلى مخالفة الدين ؟ هذا كثير منك يا مصطفى .

أجابه الشيخ بمزيد من الثقة :

ـ أما مخالفة الدولة فنعم . وأما مخالفة الدين فلا , ومنذ متى كان دينكم يدعوكم إلى قتل الغير بالهوية ؟ ماذا فعل الأرمن ؟ حتى يلقوا من الدولة ما يلقون ؟ أليسوا يملكون حق المواطنة ؟ أم ظننتم أنكم في مأمن من هذا الطوراني  ؟ والله إنه ما إن يفرغ من الأرمن حتى يأتي عليكم .

تمتم أصمان خليل وقد كان قليل الكلام في المجالس العامة :

ـ إنه يضرب أعداءه بعضهم ببعض .

قال الحاج :

ـ لا يمكن أن نكون أعداء الدولة , إننا والأتراك أبناء دين واحد , وهؤلاء الأرمن النصارى عاثوا فساداً في البلاد , فلا نمكننَّهم رقابنا وعلينا أن نناصر الدولة كي تجتث شأفتهم .

قال الشيخ :

ـ وهذا هو رأي غالبية زعماء العشائر الكردية , وهم جميعاً يطمحون من وراء ذلك إلى المزيد من السلطة والجاه .

ـ هذا هو الرأي السليم , فإن الخير كله آت مع القادم من الغرب , وقد بدت لنا تباشير ذلك .

ـ لك أن ترتأي ما تشاء , أما بخصوص العائلة الأرمنية فإنها لن تلبث عندي سوى بضعة أيام .

كان من الصعوبة أن يلتقي الشيخ والحاج في نهاية المطاف , فهذا في واد ٍ والآخر في واد , لذا فقد أراحه الشيخ بما قال والتفت إلى حديث آخر يصرف الناس عن السر الذي كشفه الحاج إبراهيم .

ولما انفض المجلس وتوجه الناس إلى بيوتهم , ظل أصمان برفقة الشيخ  وسعى معه إلى داره وأخذ يلح عليه أن يخرج العائلة الأرمنية من القرية هذه الليلة . في البداية عارض الشيخ بشدة كأنه لا يريد أن يعترف بقوة الحاج إبراهيم , بل يريد أن يتحداه في بقائهم بالرغم منه , لكنه لمح وجه التعقل في كلام أصمان , فالحاج ربما لجأ إلى طرق ملتوية للكيد به .

وتحت جنح الظلام نجح أصمان في إخراج الأرمن من القرية دون أن يشعر به أحد .

أما الحاج إبراهيم فقد أحس بضيق شديد تجاه الشيخ الذي بات يتدخل في كل شؤونه ـ كبيرها وصغيرها ـ وبدأ يكره لقاءه أو استضافته في المضافة , ففكر في أن يشي به ويتخلص منه إلى الأبد , لكنه عدل عن ذلك في أول الأمر ورأى أن يحذره سراً وينذره ألا يتدخل في شؤونه الخاصة ,فإن عاد للتشهير به في مضافته , كان حسابه عسيراً .

في هذه الأثناء كانت الجمعيات الكردية تولد من جديد بعد موت دام طويلاً  , وبدأت تنشر الصحف التي تتحدث عن الوضع الكردي والتي تريد أن تصل إلى كل كردي فتوقظه من غفوته . عندها كان أتاتورك يشعر بخطورة الوضع وحساسيته, وتنبأ أنه يمكن أن يفقد جزءً كبيراً من البلاد إذا لم يتصرف بحكمة . فراح يدرس الواقع الكردي دراسة مستفيضة ويدرس تاريخ هذا الشعب الذي فضَّل دائماً أن يعيش في الجبال ولم تطوقه حدود دولة واحدة مع كل ما يملك من قوة الشكيمة وشدة المراس . فوجد بعد تأنيه في الدراسة أن سلاحاً فتاكاً يمكن أن يقضي عليهم وبسهولة بالغة , هو ذاته السلاح القديم الذي استخدمه العثمانيون , ومن قبلهم المماليك والفرس والروم . أي سلاح يا أتاتورك ؟

بدأ أتاتورك بإثارة الشعور الديني والتأكيد على اللحمة التاريخية التي تربط الأمتين الكردية والتركية بعضهما ببعض . وبدأ بنشر وعي ديني جديد عن طريق رجال دين تدربوا على أيديه وأيدي بطانته , بينما لوحظ في الوقت نفسه " انقراض " المشايخ الحقيقيين , إما بالقتل أو بالنفي ..... فالدين الذي يجب أن ينشر بين الكرد هو ذلك الدين الذي يريده أتاتورك .

ثم تمادى أتاتورك عندما أعلن للملأ أنه سوف يعترف بكامل الحقوق القومية للشعب الكردي , وسوف يقر له بإقامة الحكم الذاتي في إطار الدولة التركية .

هل تريد أكثر من ذلك أيها الكردي ؟ ..... لقد أسبغ عليك أتاتورك من كرمه . لقد أذابك خجلاً حتى شعرت بأنك تتضاءل أمام عظمته . كان عليك أن تقبل يده قبل أن تنصرف ......  تماماً كما يفعل الطفل مع أبيه .

هكذا انبهر بعض الأكراد بشخصية أتاتورك ووعوده , فوقفوا بإخلاص إلى جانب الشعب التركي بزعامة الداهية ذو القبعة الحمراء .و أقاموا على الود والولاء للحركة الوطنية التركية ونسوا أنفسهم , لقد أيدوها منذ ظهورها واشتركوا فيها بالمال والرجال وكأن القضية قضيتهم  , والبلاد بلادهم . كانوا يتأملون أن يحصلوا على ما يريدون دون أن يتكبدوا أي مشقة , أتاتورك يتحمل عنهم كل شيء :

عودة الحقوق القومية التي طمستها السلطة العثمانية .... تحرير تركيا من الاحتلال الأجنبي ..... بناء وطن كردي مستقل...

كل ذلك صار يسيراً , وما كان في الأمس حلماً سيسفر عنه الصبح حقيقة . وقد شعر الأتراك بأهمية هذا الود ومدى أهمية إبداله بالمثل , فكانوا يزيدون وعودهم وينشرونها في كل مكان حتى تصل إلى كل كردي , وكانت البيانات التي تصل إلى كل مدينة وقرية كردية تقول : " أيها الأكراد ...إن حكومة الجمهورية التركية مصرة على نشر جميع مستلزمات الحضارة في كردستان تركيا , سوف تبلط الطرقات وتمدد السكك الحديدية في المدن والقرى, ولا يبقى الأطفال بلا مدارس  . سوف تتمتعون بالسعادة في حياة رغيدة وإن الأمن والاطمئنان سوف يمهدان السبيل إلى رفع خيرات البلاد " .

مثل هذه البيانات غالباً ما كانت تسقط في يدي الحاج إبراهيم والشيخ مصطفى وأصمان وغيرهم من وجوه القرى والعشائر . فبعضهم يغتر بها ويعتبرها بشرى خير , وبعضهم يستشعر الموت الكامن بين سطورها . ومن هذا المنطلق كان الحاج إبراهيم  مديناً للحكومة التركية يحتفظ لها بمكانة خاصة في قلبه  , بل يتمنى لو كانت رجله الأخرى سليمة ليفعل أشياءً يعجز عنها الآخرون . ويبالغ إذ يعتبر أن الحكومة هذه " لا تنطق عن الهوى " ولا تأتي قراراتها إلا عن بعد دراية وعمق تفكير وحذاقة , ولا تأتي أحكامها إلا لمصلحة الأمة .

لكل هذه الأسباب كان الحاج إبراهيم مستعداً أتم الاستعداد إلى أن يذهب بنفسه إلى النقطة العسكرية ويخبر الجنود الأتراك عن الأرمن المختبئين في دار الشيخ مصطفى . وليحصل ما يحصل . وتراه يعجب من أمر الشيخ ولا يكاد يجد له تفسيراً " وهل أعمى الله بصيرة الشيخ ... فلم يعد يميز الخطأ من الصواب .... واستشكل عليه الأمر فلم يعد يفرق الأديان من بعضها " هكذا كان يسال نفسه . وربما يتمادى في شكه فيرمي الشيخ بالصبء , وإلا فكيف يقدم على فعلته تلك وهو العارف بأحكام الشريعة .

وظل يحدث نفسه حيناً بعد حين وهو يتقلب في الحيرة بين أن يحفظ على الشيخ جريرته ويجنب القرية من رقابة الدوريات ووضعها موضع الشبهة . وبين أن ينتصر للحكومة وللدين و.... للضمير , ويتخلص من الشيخ الذي لا ينفك يشهر به و يعبث بكبريائه , وقبل أن يخرج الارمن من القرية .

ولم تطل به الحيرة , إذ شهدت القرية يوماً قدوم دورية مدججة بالسلاح توجهت إلى بيت الشيخ مصطفى حيث ألقت القبض عليه وراحوا ينكتون الدار ويقلبونه رأسا على عقب , ويبحثون في كل ركن وفي كل مختبأ . وراحوا يسألون الشيخ عن الأرمن المختبئين في داره فأومأ لهم الشيخ بأن يبحثوا جيداً , فهذه هي داره لا يملك غيرها .لكنهم أهانوه و صفعوه وهددوه, والشيخ يقول لهم إنه لا علاقة له بالأمر ولا ينتهي إلى علمه شيء مما يرمون إليه . وقد اجتمعت القرية يومها بقضها وقضيضها وشهد الجميع كيف ذلَّ الشيخ وأُهين , وكيف تضعضع الوقار وتقهقر الكبرياء . حتى إذا ما انتهى الجند من التفتيش كبلوا الشيخ بقيود من حديد وجروه خلفهم تاركين رجال القرية ونساءها في حيرة ودهشة يشيعون الشيخ ببالغ الأسى والحزن .فلما حالت الأكمة بينهم وبين شيخهم رجعوا إلى الحاج مصطفى يسألونه عن الأمر , فقال لهم :

ـ لقد كان يخفي عائلة أرمنية في داره .

فسأله احدهم :

ـ وأين هي العائلة الارمنية ؟

فأجاب مومئاً إلى مكر الشيخ :

ـ لا بد أنه شعر بالخطر فأودعهم مكاناً آخر ,  وسيقر بمكانهم هناك .

وجلجلت ضحكته , وبدت أسنانه المصفرة التي خالطها السواد , وبدا مزهواً منتصراً واثقاً بقدراته كزعيم قرية . أما الرجال من حوله فكانوا يتساءلون فيما بينهم إذا كانت استضافة عائلة أرمنية تعتبر جريمة من الجرائم التي لا تُغتفر ؟

ولم ينتبه أحد في تلك الأثناء إلى غياب أصمان عن القرية وشغلوا بالحدث الجلل الذي ترك في نفوسهم أثراً أي أثر .

وقد نجح أصمان في مهمته فأنقذ العائلة الأرمنية من براثن الحكومة واطمأن اليها حيث استودعها لدى عشيرة كردية في الجزيرة السورية وعاد أدراجه إلى القرية .

لم يفاجأ أصمان بما حصل للشيخ , إذ كان يدرك أن الحاج إبراهيم لا بد مقدمٌ على فعلته , فحمل على الحاج غيظاً وحنقا ً حتى أنه عاهد نفسه أن يردها له ولو بعد حين .

ولم  يطل غياب الشيخ كثيراً عن القرية , فما أن حققوا معه وأحالوه إلى التعذيب وضغطوا عليه بكل السبل حتى وجدوه صارماً لا يدلي بشيء مفيد , وقد افتقدوا الأدلة التي تدينه علاوة على أنهم لم يعثروا على الأرمن في داره , فاقترح أحد الضباط أن يخلى سبيله ليوضع في الرقابة عل َّ ذلك يجدي نفعاً أكثر .

وربما أنقذَ الشيخَ من تلك المحنة اختفاءُ اللحية في وجهه ,إذ لم يأنس الشيخ مصطفى يوماً باللحية كما لم يأنس بلقب الشيخ , ولا بأي شيء يظهره بمظر الشيوخ , فما كان أحد من الغرباء عن القرية يعرف عنه شيئاً من اتصاله الوثيق بالدين الحنيف ولا بتأثره بمجمل الجمعيات الكردية الداعية آنذاك إلى  إبراز الحقوق القومية للشعب الكردي , ولا باهتمامه بالأمور الجسام التي تحدث على مستوى الحكومة , كقضية الأرمن .

 ولقد سرت بين الناس مقولة " يفدي الرأسَ باللحية " وخاصة بعدما انتشرت موجة عارمة من الغضب الدفين ضد الشيوخ الداعين إلى إبقاء الطابع الديني للدولة وإبقاء الخلافة , ودحض الأفكار الجديدة القادمة من خارج الحدود .

وشعر الحاج إبراهيم بعد عودة الشيخ بالسلامة وبراءته من التهمة وفرحة الناس بذلك بأن ما حدث كان وصمة عار ألحقت به , وأن الناس قد بدأوا يغيرون نظرتهم اليه , تلك النظرة وتلك الهالة التي أنفق عمره لكي يولدها لدى الناس , يراها الآن تضمحل ويحل بدلاً منها نظرة ازدراء وتأفف . والناس من حوله يكرهون أن يفقد العظيم عظمته والكريمُ جوده . و لو وُجد بينهم من يفضل الاحتفاظ بصورة الماضي مهما تشوهت , حفاظاً على مصالحهم الوضيعة  , فهم دائماً بحاجة إلى من ينفق عليهم ويذود عنهم ويتدبر سائر أمورهم , فتارة كانوا يتناسون ما حدث وتارة أخرى  يعتبرونها حرصاً زائداً من الحاج على أهل القرية  . لكن وفي الآونة الأخيرة سقط على أذن الحاج إبراهيم أن في القرية من يرميه بالبخل وضيق العين إذ ضاق ذرعاً بوجود أضياف غرباء كان حرياً به أن يستضيفهم وينظر في شؤونهم  وقد استجاروا بالقرية , ولم يكن ما فعله الحاج من شيم الكرام . ولعل هذا الكلام قد وجد موضعه في نفس الحاج إذ ظل يفكر فيه طويلاً , ورأى أنه إن لم يقدر على إصلاح ذات البين مع الشيخ فإنه قادر على استرداد هالة المجد وتضليل الناس مجدداً بأوصاف نفسه . فركب حصانه ذات يوم و توجه إلى أرضروم التي طال اشتياقه إليها , المدينة التي تنام وسط الجبال ومن حولها الحصون والقلاع بنيت فوق تلال مرتفعة كأنها أعين ساهرة تحرس المدينة من الغزاة . وشوارعها الضيقة المزدحمة بالمارة كأنها الشرايين تنضح بالدم فيتسرب إلى كل الأجزاء , وتلك البيوت الشامخة المبنية من حجر البازلت الأسود تضفي على المدينة وشاحاً أبدياً من الحزن الدفين . يخترقها نهر كوراس الذي كأنه هدية أزلية لأهل هذه المدينة يمتعون أبصارهم وأسماعهم بخرير المياه فيه ويبوحون أسرارهم إليه . ولطالما كان هذا النهر يتلقى من أهل المدينة أدعياتهم وتبريكاتهم لأنه جعل أراضيهم خصبة نضاحة بالمحاصيل من حنطة وشعير وشمندر وخضار مختلفة .

وفي الطريق كان الحاج إبراهيم يعيد إلى ذهنه صوراً من الماضي البعيد , تتعلق كلها بالمدينة التي يقصدها . فتذكر الطفل شيار ... وكيف سولت له نفسه أن يبعده عن القرية لتصير كل أملاك أخيه رشيد  جزءًا من أملاكه .... وكيف فرح عبد الرحمن بالطفل ...وتذكر آخر مرة زار فيها عبد الرحمن وكيف وجده سعيداً مفتخراً بالولد النجيب الذي يشق طريقه إلى الأعلى بذكائه ونبوغه ...و تذكر أن اسم الولد صار جوان . ومن يومها أوجس في نفسه خيفة وتردد في زيارة عبد الرحمن ورأى في نفسه نفوراً من هذه المدينة , فما كان منه إلا أن انقطع عنها نهائياً . ولولا ما حدث في القرية لما حملته نفسه على السير إليها ..

عندما دخل الحاج إبراهيم على الرجل الكهل ألفاه وحيداً مبتئساً نالت منه السنون , فامتعض  واكفهر وجهه و راح يقلب بصره في أرجاء البيت ينفضه نفضاً كأنه يبحث عن شيء . ففاجأه الكهل قائلاً:

ـ  لقد ماتت ... رحمها الله ولم تكحل عيونها برؤية ولدها .

ـ منذ متى يا عبد الرحمن ؟ ... ولم لم تخبرني ؟

ـ منذ أشهر عدة ... دنفت في فراشها أياماً ثم رقدت للأبد .

ـ وأين جوان ... أتراه لم يخبر بموتها ؟

ـ أجل ... لقد تركنا مذ صار ضابطاً في الجيش التركي وسكن " آمد " ... وانقطعت أخباره البتة , غير أن رفاقه يترددون إلى هنا للسؤال عنه , وأجيبهم : ما المسؤول عنه بأعلم من السائل .

رمقه الحاج إبراهيم  وقد غلبته الدهشة , وقال :

ـ وكيف يجهل رفاقه بأمره ؟

ـ والله لا أعلم , إن في الأمر لبساً وإني بتُّ أخشى عليه من نائبات الجيش .

ـ هون عليك يا عبد الرحمن  , فالدولة منشغلة بهؤلاء المارقين الأرمن , وتراه موكل بمهمة في مكان بعيد حيث انقطعت أخباره حتى عن رفاقه في الجيش , وما أن يفرغ من مهمته حتى يعود إليك سالماً إن شاء الله .

ثم صمت الحاج برهة وحدج عبد الرحمن بعينين ماكرتين وقال بعد تردد :

ـ إن حالك بات يرثى له يا عبد الرحمن وإني لن أقبل بهذه الحال ولا بد أن ترافقني اليوم إلى القرية .

فانتبه عبد الرحمن من غفلته وعاجل الحاج بذعر :

ـ أترك بيتي وأذهب إلى القرية ؟ ألا يكون هذا زيادة في البعد عن ولدي , والله إني لأجد ريحه في أرجاء البيت , أراه يعبث بالأثاث ويتراكض هنا وهناك ... لا تزال ضحكاته ترتد من هذه الجدران يا حاج .

واغرورقت عيناه وتحشرج صوته ثم نشج يبكي بين يدي الحاج والحاج يربت على كتفيه ويواسيه .

ولما هدأ  عبد الرحمن انتهز الحاج إبراهيم الفرصة وقال :

ـ سوف تخبر أهل الحي جميعاً بمكانك حتى إذا جاء جوان وسألهم عنك أرشدوه إلى القرية .

ارتاح عبد الرحمن إلى هذا الرأي لكنه ظل متردداً , وما هان عليه أن يترك الجدران التي تختزن ماضيه , لكن الحياة هنا صارت صعبة عليه بعدما فقد الأنيس والجليس والصاحب والمعين .

وارتاح الحاج إبراهيم من نظرات الناس في القرية بعد أن أوى إليه عبد الرحمن وأسكنه في غرفة معزولة جانب داره وتعهده بالرعاية والاهتمام . لكي يعلم أهل القرية جميعهم أنه ما وشى بالشيخ نذالة ولا بخلا , وإنما حرصاً على القرية من شر الأتراك وحفظاً لها من كل آبق . وها هو ذا يكفل هذا الكهل الغريب برحابة صدر , ثم يقتطع أرضاً صغيرة له ويسندها إلى فلاحين يقومون عليها ويجعل من ريعها نصيباً لعبد الرحمن . وانبهر الناس كعادتهم وعدلوا عن ظنونهم بالحاج , ومنهم من زاد إعجابه به وزاد احترامه وتقديره  له  ... غير أن الصورة لا تكتمل إلا إذا عادت العلاقة بينه وبين الشيخ مصطفى إلى سابق عهدها , ولا ينسى الناس أقصوصة الماضي إلا إذا عاد الشيخ إلى المضافة وراح يقص عليهم أقاصيص الحاضر . فمضى بنفسه إلى دار الشيخ وقابله هناك وراح يستميح العذر ويشرح وجهة نظره في الأمر الذي أقدم عليه بالأمس , ثم تواضع واعترف أنه كان مخطئاً وطلب الصفح منه . ولم يكن رجال القرية على عهد بهذا النوع من أخلاق الحاج إبراهيم , فما عرفوه إلا متكبراً لا يتزحزح من موضعه ولا يطأطئ رأسه لأحد , ولا يبتدر بالعذر وإن كان المخطئ . وقد عجبوا أشد العجب لما رأوا فيه إقدامه على الاعتذار وربما اعتبروها من علامات الكبر حيث انتهى منه العزم وهدته السنون  فوجد نفسه يطرق أبواب المنية فما رغب أن تتبدل صورته في ذاكرة الناس مهما كلف الأمر .

وكذلك عجبوا أشد العجب لسماحة الشيخ , وباركوا للأيام أعادت لهم المياه إلى مجاريها .

قال عبد الرحمن وهو يتكئ على الأريكة في مضافة الحاج إبراهيم :

ـ إن لي ولداً اسمه جوان تطوع في الجيش التركي وصار ضابطاً .. فآثر خدمة الدولة على خدمة أبويه القعيدين .

قال الشيخ مصطفى :

ـ رده الله إليك سالماً ... والله إني لأجدك أحق بالخدمة من هذه الدولة .

فتدخل الحاج إبراهيم وقال :

ـ كف عن التقريع يا مصطفى... نود أن نحيا بقية عمرنا بسلام .

وقهقه بعض الرجال والتفتوا إلى الشيخ الذي قال :

ـ جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أجاهد ؟ قال : ألك أبوان ؟ قال : نعم , قال: " ففيهما فجاهد " .

قال عبد الرحمن وقد خشي على ولده أمراً :

ـ لكني أسامحه على ذلك ... وأنا راضٍ عنه كيفما كان .

قال الشيخ مبتسماً :

ـ كان الله في عونك يا عبد الرحمن .. لا يزال قلبك خفوقاً بحبه , وقلبه قد شغل عنك .

رأفت القرية بهذا الكهل المتحرق شوقاً للقاء ولده , وحظي الكهل منهم بكل الرعاية والاهتمام , وقد شعر بتغير الحال , فلو بقي هناك في المدينة , لما وجد اليد التي تمتد لمساعدته وهو في هذه الحال , وساءت حاله وتفشى المرض في جسده فوقع طريح الفراش أياماً ثم ما لبثت المنية أن عاجلته واختطفته قبل أن يكحل هو الآخر عيونه برؤية ولده . وشغلت القرية بأمره حيناً ثم درجت أيامٌ فصارت ذكراه كعارض أتى على القرية ورحل . غير أن بعض الناس تعلقوا بأمره وراحوا ينقبون في تاريخه علَّهم يكملون لوحة الأسى التي تركها فيهم , أو يكتشفون جديداً يثيرون به ذكراه .

أما الحاج إبراهيم فقد شعر بطمأنينة وراحة بال , إذ انقطعت آخر صلة له بجوان وقد كان كثير الخوف والقلق من أن يبوح عبد الرحمن بشيء من السر المكتوم لجوان فينتفض ويثير قضيةً طوتها الأيام منذ أمد بعيد , وليس بعيداً أن يكتشف الحقيقة فتنقلب الأمور كلها على رأس الحاج ويذهب تدبيره أدراج الرياح . أما اليوم ... وقد مات عبد الرحمن , فقد انتهى كل شيء , وأنى لجوان أن يدرك شيئاً من ذلك وقد مات من يشاطر الحاج سره .

وشعر الحاج بزهو الانتصار ..وكاد يتمادى ويظهر فرحته لولا أنه استدرك الأمر فإذا بمعضلة أخرى لا تزال قائمة أمامه ولا يكاد يجد لها حلاً . فظل يؤامر نفسه أياماً إلى أن دله شيطانه إلى الحل , فخرج في صبيحة أحد الأيام وتوجه إلى الحقل مشحوناً بنشاط غريب , حيث كان يخب في السير دون أن يعبأ بعرجه , كما أنه كان يجيل نظره في الأراضي والبقاع الممتدة على طرفي الطريق ويتأمل الأشجار التي تحتاج إلى عناية أكثر  من أصحابها و يضمر أن يخبر أصحابها بذلك , ويرى الناس قد هموا بحراثة الأرض إيذاناً لبذرها , بعد أن تشبعت الأرض بالمطر الخريفي وانقلب المناخ ومال إلى البرودة . وفي الحقل كانت عائشة وروخاش تجدُّ كل منهما في قطف الزيتون الذي بدأ يخالطه السواد لتأخر موعد قطافها   . وقد أنهكهما التعب وتفصد جبينهما عرقاً , ومن دونهما فتاة كاعب صبوحة الوجه طويلة الجيد ذات قدٍ رشيقٍ وبشرةٍ لفحتها الشمس وعينين غائرتين انطفأت فيهما معاني الجمال وتوقدت فيهما لمسة حزن أبدية .

قالت عائشة متململة :

ـ ما لي أراكما صامتتين أبداً لا تنطقان ببنت شفة ؟ ألا نروح عن أنفسنا بشيء من الكلام ؟

انتصبت روخاش وأفلتت غصناً من يدها  و أسندت كلتا يديها إلى خصرها وانحنت إلى الخلف تريد أن تخفف شيئاً من ألم ظهرها , ثم قالت :

ـ ما عندنا كلامٌ يا عائشة , فهاتِ ما عندك .

قالت عائشة :

ـ هلما إلي , أفضي لكما بما عندي . وأسرعت روخاش وجلست قرابة أختها , بينما ترددت كلستان وبدت مرتبكة , وقد شعرت بخطورة أن تقعد للراحة . فألحت عائشة إلا أن تكف عن العمل فهو لن ينتهي ابداً  : " العمر يخلص والعمل لا يخلص " . لكن كلستان كانت تدرك أن مواظبتها على العمل تعني الدرء لهجوم مباغت من الحاج إبراهيم والخلاص من عقابه . ومع ذلك فقد استكانت أمام إلحاح عائشة وانضمت على كره إلى ابنتي عمها وهي تقول : " لا أحبذ الجلوس للكلام فقطاف الزيتون لا يعقد اللسان "

قالت عائشة وقد توردت وجنتاها من التعب:

ـ لا نجلس للكلام بل للراحة , كان حرياً بأبي أن يدع الفلاحات تساعدننا في العمل . كيف يهون عليه أن يعذبنا هكذا ؟ ألا تريان أن العمل في هذه الأرض الواسعة شاق علينا ؟ ها قد لفحت الشمس وجوهنا فاسمرت و أخشنت المعاول أيدينا فتزلعت  وزالت منها معاني الأنوثة .

قالت روخاش وهي تصطنع ضحكة :

ـ ولم يعد أحد من الشباب يلتفت إليك ... أليس كذلك ؟

واضطربت عائشة وزاد احمرار وجهها , وشعرت بضيق شديد من غمز أختها , إلا أنها أرادت أن تنتصر لنفسها فقالت :

ـ ومن قال لك أن الشباب لا يلتفتون إلي ؟ إن فيهم من يلاحقني بنظراته في كل مكان , أينما التفتت وجدته يسترق النظر إلي .

قالت روخاش متلهفة :

ـ من هو يا أختي ؟

وظلت عائشة صامتة في حياء وهي ترقب اللهفة والفضول تقتلان أختها , وتلذذت بذلك وزادت من غنجها حتى هاجت أختها وصاحت في وجهها :

ـ كفى غنجاً يا عائشة , أخبرينا من هو .

ـ لا لن أخبركما , حتى تؤتوني موثقاً أن يبقى الأمر سراً .

ـ أقسم لك أننا لن نخبر أحداً يا أختي , وهل جربت فينا إفشاء أسرار البنات ؟

ـ لا ولكن الأمر لا يزال في أوله .

ـ إذاً فمن هو ؟

ـ إنه أصمان .

وصمتت كلتا الفتاتين والتقت عيون الجميع في نقطة استغراب واحدة , وحلقت أحلامهن بعيداً إلى ما وراء حدود الحقل .

قالت روخاش :

ـ ما أظنه إلا يلقى القبول لدى والدك فهو مع فقره ورقاقة حاله غني بأخلاقه ونشاطه وإقدامه على العمل بتواضع وهمة .

ـ فذعرت عائشة وانتفضت تقول :

ـ لا لا لم يصل الأمر إلى هذا الحد , قلت إنه ينظر إلي فحسب , ومن يدري فلعله يلتفت عني إلى إحداكن .

قالت روخاش ضاحكة :

ـ لا تخافي يا أختي , فأنا لن أسلبه منك , وأما كلستان .........

ولم تكمل روخاش جملتها إذ انتبهت لنفسها هنا وقطعت ضحكتها وتغيرت ملامح وجهها فجأة كأنها كانت ستنزلق إلى ما لا تريد .

فاندهشت الأخريان وراقبتا اضطرابها صامتتين تنتظران بقية الحديث .

لكن روخاش ظلت صامتة معلنة نهاية الحديث . وبدت كأنها تريد أن تغير الحديث لولا أن عائشة استعجلتها قائلة :

ـ أكملي يا روخاش .... وأما كلستان ؟

ـ دعك من هذا ... لا أعني شيئاً  .

لكن نيران الغيرة تأججت في صدر عائشة ولم يهدأ لها بال  , وخشيت أن تكون كلستان هي التي تسلب حبيبها, فظلت تلح على أختها وتعنفها إذا ماطلت حتى استسلمت روخاش وقالت :

ـ أظن أنها ستزوج لأخي جومرد , هذا ما سمعته ليلة البارحة من أبي .

سقطت هذه الكلمات ثقيلة على قلب المسكينة , إذ لم يخطر ببالها مطلقاً أن تتزوج من جلادها , وكيف يمكن أن تتصور ذلك ولم تجده إلا يداً لأبيه في تعذيبها والتنكيل بها وكأنها من ألد أعدائه, وما شعرت يوماً تجاهه كما تشعر البنت تجاه ابن عمها , حين تجده الشاب الوحيد الذي ينتظرها , قبل أن تتفتح الآفاق وتعي الدنيا , بل لم تشعر به أخاً يكبرها بسنوات خمس , حريصاً عليها حرصه على أخواته , ولم تشعر به رجلاً ذا مكانة في البيت , وهالها الأمر إذ كانت روخاش جادة في قولها بعيدة عن جو المزاح , وسرت بمخيلتها بسرعة صور من الماضي القريب تندمج بتخيلات مستقبلية .

ولم تنتبه كلستان إلا والحاج إبراهيم واقف على رأسها وكلتا ابنتيه منتصبتان مذعورتان بجانبها . وانتصبت واقفة هي الأخرى مذهولة لا تدري أي الأمرين أهول .

وانهال الحاج إبراهيم بتوبيخاته وسبابه على البنات و بالغ في تجريحهن وتقريعهن حتى شهقت كل واحدة منهن بالبكاء , ولم يكتف الحاج بذلك إذ راح يضرب كل واحدة منهن ضرباً مبرحاً , وهن  يحاولن جهدهن أن يكتمن الصراخ على مضض خشية أن يزداد غضبه فتعود العاقبة عليهن زيادة في الضرب والتوبيخ . وما أن فرغ الحاج من أمره حتى بدا عليه التعب واللهاث , وسألهن عن ابنه جومرد , فأجابت عائشة من بين البكاء تدله على مكانه , وأدار لهن ظهره وهو يتوعدهن بأشد العقاب في البيت . وتوجه من فوره إلى حيث يعمل جومرد .

وضع جومرد حبل الثور على غاربه ورمى بعصاه بعد أن ترك المحراث مغروزاً في الأرض والتفت إلى والده .

ـ تعالى يا جومرد , هناك ما أسره لك .

ـ خيراً يا أبتاه ؟

ـ انظر يا ولدي , إن هذه الأرض التي تحرثها كانت لعمك رشيد , ضف إليها بقية الأرض التي تركها ميراثاً لابنته الوحيدة .

ـ قد علمت ذلك يا أبي .

أردف الحاج وهو يلزم الحذر :

ـ وما رغبت أن تحول الأرض التي نحرثها إلى غيرنا .

فانتفض جومرد قائلاً :

ـ وكيف يمكن أن تحول إلى غيرنا ونحن قائمون عليها منهكون من دونها .

قال الحاج :

ـ أما فكرت يوماً إذا تزوجت كلستان من غريب وطالبت بالميراث .

ارتسمت بسمة ساخرة في وجه جومرد وهو يتنفس الصعداء ويقول :

ـ لا عليك يا أبي فما طالبت امرأة من قبلها بالميراث .

فاستشاط والده غضباً ومد قبضته فامسك بتلابيب جومرد وقال له :

ـ احمل الأمر محمل الجد ولا تغظني .

قال جومرد مستغرباً :

ـ وماذا تريدني أن افعل ؟

ـ أن تتزوجها .

ـ أتزوج من ؟

ـ كلستان .

قال الحاج إبراهيم كلمته تلك وأومأ لولده أن يهم بالعمل , كأنه لا يريد منه جواباً , وأشار بيده أن " صه " , حينما حاول ابنه أن يقول شيئاً , ثم التفت منصرفاً يريد القرية تاركاً ابنه جومرد يشيعه بمزيد من الدهشة . ولما اختفى الحاج إبراهيم خلف أكوام الحجارة وأشجار الزيتون , كان جومرد قد تيقن المصيبة التي ألمت به . أية كارثة هذه جاءت في هذا الوقت لتقصف كل أحلامه وتعطل كل تدابيره , لقد كان ساهماً وهو يمشي خلف المحراث قبل مجيء أبيه يفكر في الفتاة التي لقيها أكثر من مرة عند الوادي الخضير المحاذي لحقول القرية المجاورة وقد رمقها بنظراته وتلقتها برضا إذ مكثت ذات مرة تبادله النظرات ولا تعبأ بالعمال في أرضها , لقد سأل عنها الناس فأخبروه بأنها ابنة خورشيد اينالو أحد كبار الملاكين في تلك المنطقة , والذي أثار إعجابه وتعلقه بالفتاة أنها وحيدة أبيها . وأراد التقرب منها والتحدث إليها إلا أنه لم يفلح في ذلك حتى يومه هذا . لكن قلبه مفعم بالأمل إذ إن الفتاة لا تدير له جنباً ولا يميز في وجهها معالم الغضب حين يسترق اليها النظر من بين أغصان الشجر بل تقف هي الأخرى قبالته على مسافة تستطيع أن تميز ملامحه بوضوح وتبادله تلك النظرات وكأنها رأت فيه شيئاً جديداً لم تألفه في شبان قريتها . وهكذا ظل جومرد يتردد إلى الوادي الخضير بين الفينة والأخرى يترك عمله كل يوم ساعة أو ساعتين يمضيها في التخبط بين أشجار الوادي باحثاً عن فتاته حتى إذا وجدها ظل جامداً معلق النظر صوبها لا يكاد يبرح مكانه حتى تغير هي مكانها . ويشعر وهو كذلك بفيض من الأحاسيس لا يعلم كيف يصنفها وهو الغر في الحب . لكنه ظل يشكو الهوان والارتخاء في جسده والملل من العمل والضجر من كل ما في قريته , ويستشعر في بعض الأحايين برغبة جامحة في ترك قريته وقصد القرية المجاورة . وعزم غير مرة على مكاشفة والده بالأمر لكن حياءه كان يمنعه واطمئنانه كان يدفعه إلى تأجيل الأمر, حتى جاءه والده اليوم ووضع مصيره أمام عينيه . فغلب على أمره وهو غير جاهل بطبائع والده وسجاياه . ونهض مثقلاً بهذا الهم الجديد الذي ملأ فكره وشغل قلبه , ثم عالج المحراث وضرب الثور بسوطه ضربات قوية ساخطة , وراح يصيح به صيحات تنفجر من أعماق صدره , وكان حين ذاك قد شل تفكيره واسودت الدنيا في عينيه , وجللت وجهه غاشية من حزن وغضب وهاج به الدم  ولم يعد ينتبه حتى لخطوط المحراث .

أما كلستان فقد امتعضت وراودها الخوف لِما سمعت من ابنة عمها عائشة , وابتأست لما رأت الجدَّ في كلامها . لكنها استدركت فيما بعد أن الأمر قد لا يعدو أن يكون مزحة أو كلمة عابرة ندَّت من لسان عائشة فتراها الآن نادمة على ذلك متأسفة تتحين الفرصة كي تعتذر لها . وفرَّجت عن سريرتها بهذا الرأي وظلت كذلك يوماً أو يومين وهي تتحاشى أن تلمِّح للأمر وترقب ابنتي عمها علَّ إحداهن تنطق باليقين . وكانت كلما اختلت بنفسها تفكر في هذا العارض الذي هز شيئاً في داخلها . فما سبق وأن فكرت يوماً فيما تفكر به الفتيات من لداتها , ولا حتى تتذكر نفسها حلمت بشيء من أحلامهن . ولقد كانت حياتها منطوية على العمل المضني , وإن ترك لها اليوم الطويل ساحة للتفكير فإنها لا تخرج عن التفكير في السبل التي تتجنب بها عمها وتتقي شره , أو أن تستحضر أمها فتنشج باكية حتى يريحها الكرى . إنها باتت تخجل حقاً من نهديها الكاعبين وترتدي أوسع أثوابها كي تخفيهما فإذا هبت نسمة والتصق الثوب بصدرها وارتسمت معالمه هوت على الأرض محمرة الوجه تحس كأن الأعين كلها تراقب هذا الصدر الممتلئ. وهل هذا إلا من علامات النضج تتبدى للخطابات من النساء أن هلموا فقد أينعت ثمار هذا الحقل . كيف لا وهي تجد ذات المعنى في حركات بنات عمها ورفيقاتها وفي أحاديثهن وضحكاتهن , وكانت تعتب عليهن لهذه الميوعة وتنكر عليهن غنجهن وتدللهن . هل باتت العيون تراقبك يا كلستان , وهل تحسست نضجك  فامتدت المناجل إليك ...... يا ويحي . أتكون نهايتي كبدايتي .... أيكون لزاماً علي ألا أبرح هذا الحقل حتى أراه يهرم , ألن تمتد يدٌ حنونة فتقتلعني بلطف من هذا البيت كوردة تُقطف من بين الأشواك بعناية حتى لا تسقط أي ورقة من أوراقها الزاهية ؟     

لكنها كلما حلمت بهذه اليد تتخيل نفسها تساق بين أيدي نسوة أشداء إلى حجرة تجمعها بابن عمها ثم تنطفئ شمعتها فلا ترى بعد يومها ذاك إلا السواد الحالك , فتبرق عيونها بالدموع , وتزم شفتيها تحاول أن تغلب البكاء ولا تلبث أن تجهش به, فينهمر الدمع

من عيونها حتى تنتبه لنفسها وتنظر إلى الاحتمال الآخر الذي لا يزال معروضاً أمامها فترى نفسها قد أعجب بها شاب همام شهم طيب النفس سهل الطباع قد رغبت فيه كل الفتيات فرغب بها عنهن وحظي بها فانجدها من عذابها تحت جنح الظلام إلى عالم مختلف تماماً عن عالمها . ولا تشعر بالبسمة الخفيفة الحالمة تستوعب الدمع المنهمر من عيونها المتلألئة . وظلت تتقلب ما بين الاحتمالين حتى جاءتها عائشة في ساعةٍ من الليل فوجدتها قاطبة الجبين عابسة ساهمة . فانبرت تقول في فرحة بادية :

ـ لقد صدق ظني يا كلستان هيا فافرحي وانفضي عن نفسك هذه السحابة .

رفعت كلستان رأسها عن وجه أشرف على البكاء وتمتمت قائلة :

ـ أي ظن صدق يا عائشة ؟

ـ أيتها الملعونة ستسبقيننا إلى الزواج .

ظلت صامتة .

ـ جومرد أخبرني بالأمر , وهذا ما يراه أبي .

هكذا دفعة واحدة انكشف الستار عن أيام يسمونها المستقبل وتسميها هي ( المستقتل ) , واندمج الاحتمالان فتوحدا عليها وراحا ينهشان قلبها , أما الاحتمال الأول فهو واقع لابد , فهي مقدمة على شر أيامها , وأما الاحتمال الثاني فصار كحلم كان على وشك أن يتحقق فتقاذفته الرياح الهوج فظلت تلهث خلفه في القفار وتتكبد العناء بلا جدوى . وبرقت عيونها ثم خارت قواها وسقطت بجانب عائشة مغشية عليها , وراحت عائشة تصيح بذعر وتلطم وجهها ولا تدري ماذا تفعل ,  إلى أن هداها رشدها فأسرعت إلى جرة الماء فتناولت منه شفافة ورشته على وجه كلستان , وظلت تكرر ذلك إلى أن استفاقت المسكينة ملتاعة تلهث من الخوف و ترتعش من البرد

وظلت عائشة تمسح وجهها وتهدئ من روعها . ولم تكن لحظات حتى اجتمع عندها كل من كان في الدار إثر الصيحة التي أطلقتها وراحوا يسألونها عن الأمر ,فأجابتهم عائشة :    

    ـ إنها مريضة .

..................................   5  ..................................................

 لما فرغ الرجال من صلاة الظهر في المسجد الصغير وسط القرية وهموا بالخروج لمحوا شاباً يافعاً طويل القامة يصلي خلفهم , حينها لم يشأ أحد الخروج قبل أن يعرف من يكون هذا الشاب الغريب , فتظاهر البعض بالانشغال في الأذكار التي تلي الصلاة وراحوا يهمهمون بالدعاء ويعدون التسابيح بأناملهم المتشققة , وهم يلحظون الشاب حيناً ويتوضحونه أحياناً . ولم يخف البعض الآخر اهتمامهم بالتعرف على الشاب الغريب . حتى إذا فرغ الشاب من صلاته تقدم إليه الحاج إبراهيم وألقى عليه السلام فانتصب الشاب واقفاً على قدميه يرد السلام بابتسام , وسرعان ما التف حوله أوزاع وأعناق وهو يبتلع رضابه ويرد السلام على الجميع متحفظاً متملقاً  قد جلَّل وجهه احمرارٌ ربما من خجل , ولم يطل مكوثهم في المسجد إذ أعلن الحاج إبراهيم ضيافة الشاب الغريب , وكان من البديهي أن يرافق الشاب في الضيافة كل من شهد صلاة الظهر في المسجد .

وفي المضافة لم ينتظر الشاب حتى يلقى عليه السؤال المنتظر بل ابتدر بالحديث فقال :

ـ جئتكم أبحث عن رجل جاوز السبعين من عمره يدعى عبد الرحمن وقد أرشدوني إلى قريتكم .

ذعر الحاج إبراهيم لما سمع ما سمع , ودارت الدنيا من حوله وراح يحدق في وجه الشاب والدم يغلي في عروقه , وانقبض صدره انقباضاً شديداً حتى همَّ أكثر من مرة أن يطلق صيحة تهتز لها الجبال , وعبثاً حاول أن يخفي انقباضه, وانتبه إلى نفسه وحاول أن يصلح من حاله ما أفسده كلام الشاب فجمع خيوط أفكاره وركز في الحديث الذي كان يدار بين الشيخ مصطفى والشاب الذي قد عرفه تماماً . إذ أجابه الشيخ قائلا :

ـ ومن تكون يا بني ؟

ـ أنا جوان , ابن عبد الرحمن يا عم .

ـ آه .... صحيح  لقد حدثنا والدك مطولاً عنك فعرفناك قبل أن نلقاك .

ـ أرجو أن أكون عند حسن ظنكم يا عماه ... ولكني لا أجده بينكم فهل غادر القرية .

طأطأ الشيخ رأسه وحاول الجميع أن يتفادوا نظرات الشاب كأن لا دخل لهم بكل الحديث .

ـ أجل لقد غادر القرية متحرقاً للقائك .

ـ أوتعلمون وجهته ؟؟.

اكفهر وجه الشيخ وانقبض صدره إذ قاده الحديث إلى أن يضلل الشاب فصعب عليه أن يكاشفه بالأمر ويلقي عليه الحقيقة , فالتزم الصمت حين كان جوان ينتظر منه الجواب .

ـ ألم تقل لي أنك تعلم وجهته؟؟؟

وشعر الشيخ كأن المجلس قد خلا من دونه فأطلق نظرات استنجاد إلى من كان حوله فوجدهم أدنى منه قوة وأقل تدبيرا, فهز رأسه بحزن بالغ وهو يقول :" حسبنا الله ونعم الوكيل "

فاربدَّ وجه الشاب واحمر , وغابت آثار الابتسام فيه وراح ينظر حوله في الوجوه العابسة ينفضها نفضاً , فوجد فيها ما استقر في نفسه وعجز عنه القول . فتوجه إلى الشيخ مصطفى قائلاً :

ـ أوقد مات ؟؟؟

وهزَّ الشيخ رأسه بالإيجاب فأخفى جوان وجهه خلف كفيه وقد برقت عيونه بالدموع , ثم شرع يبكي وقد ثنى ركبتيه فألقى برأسه عليهما وأخفاه بتصالب ذراعيه . ودنا منه الشيخ مصطفى يربت على كتفه ويمسح شعره ويحاول أن يخفف عنه موصياً إياه بالصبر داعياً له بالسلوان , والكل من حوله يحوقل ويهيلل .

إن الدنيا صغيرة بحق, وإن الأيام تدور وتصنع الأعاجيب , .... من كان يصدق أن ابن رشيد يعود برجليه إلى قريته .... أولم يأخذه الجيش فأبعده حتى عن " آمد "؟....ألم يأخذه عبد الرحمن فتبناه مذ كان صغيرا ؟..... ألم ينجح تدبيرك يا حاج إبراهيم طوال تلك السنين ؟؟ فما الذي عاد به إذاً ؟؟؟ هكذا كان يفكر الحاج إبراهيم حين انشغل القوم بأمر جوان , لكنه فيما بعد راح يلقي باللوم على نفسه إذ مضى في يومه المشؤوم ذاك إلى " آمد " ليحضر عبد الرحمن إلى القرية , وأقنعه بنفسه لما رفض , ويسر السبيل لجوان إذا ما عاد إلى " آمد " فترك في الحي ما يرشده إلى القرية ...." آه لكم كنت غبياً حينذاك ". كان يجد في نفسه الرغبة في قتل نفسه وهو يعرض حماقته ويتذكر التدبير السيئ الذي أوقعه في مغبة الأمر وشارف على أن يهدد كل مطامحه ويذريها فلا يذر منها شيئاً . إنه كان يخطط لأمر آخر ويمضي فيه .  فبعد أيام أو أسابيع تزف كلستان إلى ابنه جومرد فينسى أمرها بعد أن كان قد نسي أمر أخيها من قبل  ... هل عليه أن يعيد كل حساباته ؟  ...رفع رأسه وحدج الضيف الشاب ثم غط مجدداً في سهوه " وما يدريه من يكون , لقد مات عبد الرحمن فانقطع عن الولد أثره فهو لا يدرك الساعة إلا أنه ولد الكهل الذي أكله الدود ." انفرجت أساريره قليلاً وهمهم بشيء لم يفهمه أحد, فلما شعر بموقعه بين الرجال تنحنح ورسم على شفتيه ابتسامة عريضة وهو يتوجه إلى جوان بالقول :

ـ يا بني قد علمت في بعض أخبارك أنك تركت أرضروم وقطنت " آمد " فما الذي حبسك عن والديك؟

ـ ظروف البلاد يا عماه ... الأحوال لا تخفى على أحد , الحكومة تريد أن تثبت أقدامها  ومن ثم تبدأ بالإصلاحات التي توعدت بها . لكن هؤلاء الأرمن قد باغتوها ولم تكن قد حسبت لهم أي حساب , فانشغل الجيش بأمرهم ولا يزال .

وتفاجأ القوم إذ علموا أن صاحبهم من الجند وتوجسوا منه الخيفة , فهم لم يعهدوا الأمان من الجند ما عاشوا . وتذكروا على الفور ما حدث لشيخهم من جراء أحداث الأرمن والحقد الذي تعشعش في موضع وسط بين الشيخ والحاج , ورغبتهم في تخطي الأمر بأقصى سرعة . لكنهم شعروا الساعة كأن المأساة على وشك أن تعود من جديد , وقد أدركوا أن الحاج تربطه صلة قديمة بهذا الشاب الغريب , ربما ينتهزها ليمكن عرشه في القرية ويرضخ كل من خالفه في الرأي .

ـ إذاً فقد اقتطعت إجازة لترى أهلك ؟

ـ عرفت في " آمد " أن أمي قد ماتت وان أبي قد ترك المدينة وقصد قريتكم , لكني وصلت متأخراً بعض الشيء, ولا أدري ما الذي سأفعله الآن ....

قال الشيخ مصطفى بكثير من الأسى :

ـ لا عليك يا بني قدَّر الله وما شاء فعل .

ـ لكني كنت أود البقاء معه دائماً ويا حبذا هنا في قريتكم .

فغر الحاج إبراهيم فاه ونظر إلى جوان مدهوشاً وانطلق منه السؤال عفوياً :

ـ  والجيش ؟؟

ـ لقد انتهيت منه ؟

ـ كيف وأنت ضابط فيه ؟

ـ إنهم لا يريدون ضباطاً إلا من الأتراك أنفسهم .

استنكر الحاج إبراهيم هذا الأمر وبدا عليه الامتعاض, و انبرى الشيخ مصطفى قائلاً :

ـ هذا أول المطر ..." وساء مطر المنذرين ".. بالأمس بدأوا بتصفية العناصر الأرمنية من الجيش واليوم شعروا بخطر الكرد بين صفوفهم .

قال الحاج إبراهيم يريد أن يغير مجرى الحديث :

ـ وماذا ستفعل يا جوان ؟

ـ لا أدري , ولكن هل لي إلى مقام في قريتكم .أريد أن أكون بعيداً عن الأنظار لأنهم يراقبون كل من عزلوه ويضايقونهم وربما أودى بهم الأمر إلى سجنهم خشية منهم .

وسادت لحظات صمت ... جوان ينتظر جواباً ... والحاج إبراهيم يفكر في الأقدار التي تجتمع عليه وتأبى إلا أن تلقي بجريمته بين يديه ... والناس الذين لا يعنيهم شيء .

وشق الشيخ مصطفى ستار الصمت قائلاً :

ـ لك من داري منزل يا بني .

فأطرق الحاج إبراهيم هنيهة ثم قال :

ـ وكنت قد اقتطعت لوالدك أرضاً ليكسب منها قوته فهي الآن لك تعمل فيها وتكسب منها إلى أن تغادر القرية .

ثم أردف قائلا ً :

ـ ولنا الحق أن ندعوك لمغادرة القرية متى شئنا .

ووافق جوان وشكر القوم على حسن الضيافة بينما كان الآخرون يستهجنون ما قاله الحاج إبراهيم آنفاً .

اتخذ جوان جزءًا من دار الشيخ مصطفى مقاماً له , واطلع على الأرض التي وهبها له الحاج إبراهيم مؤقتاً , وبدأ حياته في القرية منزوياً متحفظاً لا يحبذ الاختلاط بأحد من الفلاحين . غير أن الشيخ مصطفى كان يتردد عليه بين الحين والآخر يستفقده ويسأل عن احتياجاته , وربما قد راب الشيخَ شيءٌ من أمر ضيفه لمّا ألفاه كثير العزلة لا ينخرط في حديثٍ ولا يبدي عن رأي , فصار يكثر من زياراته له ويطيل المكوث عنده يستجره في الحديث ويدرس ملامحه علَّه يصل إلى شيء , وقد كان جوان فطناً لكل ما يروم إليه الشيخ وكان كذلك يحاول أن يفهم من طباع الشيخ ما تمكّنه من اتخاذه أميناً لسره .

والتقى الاثنان ذات مرة في منتصف الطريق حين أدرك جوان في الشيخ مروءته ووفاءه ودماثة طباعه وكرم طرفيه وشرف جانبيه . وقرأ الشيخ في ضيفه الذكاء المتوقد والخلق الواسع و النفس الطيبة ,ورأى فيه كأنه جال بقاع الأرض ونقّب في البلاد فاستفاد العلم والمعرفة وجمع الدهاء والحنكة . إلا أنه أراد أن يطَّلع على سرِّه فجلس إليه ذات مساء وراح يبادله أطراف الحديث حتى إذا استأنس منه جوان أفضى إليه بسره وأزاح النقاب عن وجهه فإذا هو الصبح انجلى عنه ستار الليل . وطرب الشيخ لحديث جوان وهو يخبره بأنه من أتباع الشيخ " سعيد بيران " وهو موكل بتنبيه الناس ورؤساء العشائر إلى الخطر المحدق مع انكشاف نوايا أتاتورك . مثله في ذلك مثل العشرات من الضباط الكرد والوطنيين الذين أبعدوا عن الجيش فجعلوا من الشيخ سعيد قائداً لهم .

واشتد أزر الشيخ مصطفى في قرية " كسروان "  , واتفق مع جوان على طريقةٍ لكسب الناس وتنبيههم مع أخذ الحيطة و الحذر من الحاج إبراهيم وأمثاله . وقد حكى له ما فعله ذلك الحاج في يوم الأرمن  .

 وسرى نبأ الضيف الشاب في أطراف القرية حتى تلهف الجميع إلى مقابلته ليشهدوا فيه ما فقدوه في والده عبد الرحمن . وفرحت الفتيات في القرية إذ علمن أن الضيف عزبٌ لم يطرق أبواب الزواج بعد . فلعله إن مكث في القرية يعجب بواحدة منهن فيزيد حظ الأخريات في شباب القرية . وسرعان ما حلقت أحلامهن كطيور تحررت لتوها من أقفاص العبودية وانطلقت إلى عالم جديد بعيد عن الأشواك والمعاول وأسياد الأرض .

  ..................................................       6     ......................................................

  لما هبط الليل على قرية " كسروان " وخلت طرقاتها من المارة وهدأ ضجيج الرعاة والفلاحين العائدين إلى القرية , وانشغل الناس بمصابيحهم , كان عدد من الشبان يتسللون متخفين عبر الممرات الضيقة بين البيوت الطينية قاصدين دار الشيخ مصطفى . وميز الشيخ طرقات أصمان فنهض مسرعاً وفتح الباب فدخل أصمان ومعه رهط فألقوا التحية وأخذوا مواضعهم في المجلس حيث سبقهم جوان لدنوه من الدار .

قال الشيخ مصطفى بصوت هادئ :

ـ إن ما أرتجيه منكم أيها الشباب أن تكتموا أمركم هذا ولا تطلعوا عليه أحداً فإن العيون تتربص بنا .

فأجابه أحدهم بحماس زائد :

ـ لا ينبغي أن نبقى مكتوفي الأيدي , نخاف من ظلنا .

وقال آخر :

ـ إن العالم من حولنا يغير ملامحه والكل يسعى لأن يحفظ لنفسه موطئ قدم . أما نحن فلا نزال نخاف من وساوسنا .

قال الشيخ وهو يحاول أن يمتص اندفاعهم:

ـ ليس من الحكمة أن نلقي بأنفسنا إلى التهلكة . إن جهرنا بالأمر ألقي القبض علينا فلم نفلح في شيء .

أجابه أحدهم :

ـ القرية كلها أكراد فممن نخشى ؟؟؟

أجابه الشيخ :

ـ من أنفسنا .... من أنفسنا .

ـ ولكن إلى متى نبقى هكذا كاللصوص .

ـ إلى أن يأتي الفرج ... ولا أحسبه بعيداً .

وأومأ الشيخ إلى جوان , فتنحنح الأخير وبدأ حديثه قائلاً :

أيها الأخوة , قد علمتم أن الكرد في عموم تركيا يتألمون كما تتألمون , وقد أحسوا بالخديعة بعد ذبيحة الأرمن , فالكل يطالب الآن بالثورة  للحصول على ما جردنا منه أتاتورك . ها قد غدا الفلاح الكردي محروماً من حقوقه السياسية , وكل من لا يجيد القراءة والكتابة باللغة التركية اعتبره الأتراك أمياً لا يملك حتى حق التصويت , لقد اعتبروا التركية هي لغة البلاد الرسمية وما دونها من اللغات محرمة على ناطقيها, وهاقد غدت المرأة لا تجرؤ على الخروج من دارها محتشمة متسربلة بأثوابها الأزلية , وهاقد بات الشيوخ يحذرون من الجندرمة خشية أن يلتقطوا العمامات فوق رؤوسهم بعد أن أُمروا بخلعها ولبس القبعة بدلاً منها , وهاهم الفقراء يتجمهرون في كل ركن شاخصين أبصارهم نحو السماء منتظرين طائرات الحكومة تلقي فوق رؤوسهم فتات الطعام  .

استمر جوان في كشف الخفايا المنوطة بمجمل الواقع الجديد والغموض الذي يكتنفه , والكل من حوله يرهفون السمع إلى النمط الجديد من الأحاديث التي لم يألفوها في قريتهم البعيدة عن ( الواقع ) .

أما الشيخ مصطفى فقد كان مغمض العينين يهز رأسه بين الفينة والأخرى , يستمع إلى حديث جوان بكثير من اللوعة والأسف , وقد تغيرت ملامح وجهه وكأنه تذكر أمراً مريعاً كان غائباً عن باله فامتعض بشدة لذكره , وتبين ذلك جلياً لمن حوله فظلوا يرنون إليه برهة دون أن يقتحموا عليه شروده .

كان الشيخ حينذاك يتأمل الواقع الكردي ويغوص في أعماق الرجل الكردي فيراه حملاً وديعاً يساق بسهولة إلى مذبحه . لقد وقف الأكراد في الأمس القريب جنباً إلى جنب مع أتاتورك ضد الانكليز وناصروه حتى مكنوه من رقابهم , لقد أحسنوا إليه في محنته .... فما هو جزاء الإحسان ؟؟؟؟  لا أحد يفكر في جزاء الإحسان , الكل شغلتهم لقمة العيش عن كل شيء , فقد ازدادت الضرائب على كاهل الفلاح , وتقلصت أرض الكردي مع استمرار انتقالها إلى غيره  وبدأت الأنياب تكشر في وجهه .

 وكالقناديل أضيئت في الليلة الظلماء كانت هذه المجموعة من الرجال تتحدى ظلام النفوس بعنف وتضع أمامها طريقاً شائكاً طويلا لا تدري أين ينتهي , وقد أحاطوا علماً ببزوغ فجرٍ أضاءه كوكب انبهر نوره حديثاً , وقد ملئوا يقيناً أن هذا النور سوف يبدد الظلام في عموم البلاد .                        

أنغام جديدة فوق جبال آرارات تتردد من حناجر البلابل الظمأى العالقة على الأشجار العارية في السفوح والوديان ,   أنغامٌ شجية تصطدم بوجوه عابسة مخددة كالأرض التي حرثها آنفاً ثور هرم . وجوهٌ عتيقة كهذه الجبال , وآمال عالقة بين أشواك القلوب الخائفة لا تعرف لنفسها خلاصاً . هذه الجبال وهذه الوديان وهذه الوجوه كانت تغيب جميعاً في معمعة الزمن الموحش حيث تطغى على البلاد مجموعتان , الأولى تملك السيادة والحنكة والقوة و .... كل شيء , وتستقي من دماء الناس . والأخرى تملك الأرض والتاريخ و..... الخنوع , تتبرع بدمائها عن طيب خاطر , حباً للفداء ونكراناً للذات , تلبية لنداء أتاتورك المقدس والقادم من وراء حدود الشرق ببذلة جديدة ذات أزرارٍ مذهبةٍ ورأسٍ جديد ٍ يلبس القبعة بدلاً من العمامة , يرغب في خلع الشرق عباءته وعمامته ولحيته ولبس النموذج الغربي الجديد . ولقد كان الشيخ مصطفى كالو يحاول أن يكشف للناس شيئاً من عيوب هذا الرجل كلما سنح له الحديث في مضافة الحاج إبراهيم , ففي إحدى المرات وبعد أن تشقق الحديث عن أوضاع البلاد سُمع الحاج إبراهيم يقول :

ـ لكأني أرى الخير كله قادماً مع أتاتورك !.

فاحمر وجه الشيخ وانتفخت أوداجه وقال مغتاظاً :

ـ لا خير في رجلٍ عاف عاداته ومستنداته وقلَّد الغير من شعوب بعدت عنا عاداتها ومستنداتها .

وسرعان ما انضم أصمان إلى الحديث بضحكة خفيفة قال بعدها :

ـ يريدنا أن نلبس القبعة !!

قال الحاج إبراهيم بشيء من الحزم :

ـ إن الرجل يدعونا إلى وحدة الدين ولمِّ شمل المسلمين وقد وعد خيراً .

أجابه الشيخ مصطفى :

ـ هذه نقطة ضعفنا دائماً , ننصهر حتى آخر عظمة في بوتقة الغير .

وهنا طرق الباب طرقات خفيفة خجولة , واستدار الحاج إبراهيم نحو الباب وصرخ :

ـ تفضل .

دخل جوان بخطوات هادئة وألقى السلام على الرجال ثم أخذ مقعده قبالة الشيخ مصطفى في حين لمح الجميع وجه الحاج إبراهيم قد اربدَّ ونمَّ عن غيظ , وربما وجدوا فيه عشرات الأخاديد المتجعدة في أعماق كل أخدودٍ ضغينة وحقد وكراهية . وأحسَّ الشيخ أيضاً بذلك فانبرى يتحدث ليصرف القوم عما شغلهم :

ـ انظروا يا رجال .... إن أتاتورك لم يدرك معاني الجوع التي نعيشها ولم يفهم معنى العمامة التي نلبسها ,ولامعنى الأرض التي نحرثها ,لذا فإنه لم يأت ليحل لنا ما أشكل علينا ,  بل جاء ليجلس فوق أكتافنا ويسحق رؤوسنا تحت نعاله الجديدة , والمؤمن لا يُلدغ من جُحرٍ مرتين   .

ووجد جوان نفسه منقاداً إلى الحديث فقال :

ـ إن أكاذيبه لن تنطلي علينا ولم يعد بمقدوره معالجة الأمر بمزيد من المكر والحيلة  .

فغر الرجال أفواههم مدهوشين مما سمعوا من هذا الضابط المخلوع , وقد كانوا ينتظرون منه الإشادة بقائده الأسبق , ويحسبون له ألف حساب قبل أن ينطقوا أمامه بشيء عن " السياسة " . وظن بعضهم أن الرجل يستدرجهم في الحديث ليوقعهم في شراكه , ومن يدري فلعله أحد جواسيس أتاتورك جاء يستطلع القلوب والعقول .

وكان أكثر القوم دهشاً الحاج إبراهيم الذي راح يرشفه ويسفُّ النظر إليه وكأنه يريد أن يكتشف من أمر هذا الضابط ما أخفاه عنهم . وتدخل أصمان قائلاً :

ـ لقد سمعت أنهم شكلوا لجنة خاصة ضمت عدداً من الوزراء الترك وبعض الشخصيات الكردية البارزة .

قال الحاج إبراهيم وهو يحاول أن يدفع عن نفسه ما أثاره مجيء جوان وكلامه آنفاً :

ـ وماذا ستفعل هذه اللجنة ؟

قال أصمان :

ـ إنها ستقوم بدراسة أوضاعنا .

أجاب الشيخ مصطفى :

ـ ما يعنينا من أمرها شيء ... إن الوضع مدروس , والحل موجود .... لا بديل عن الحرية .

قال الحاج إبراهيم بشيء من الانفعال :

ـ أولسنا أحراراً ؟!!!

ـ لسنا كذلك يا حاج ما دامت رقابنا في قبضة الآخرين  . حياتنا مرهونة بانفعالاتهم . وجودنا يرتعش أمام مزاجيتهم .

لم يتمالك الحاج إبراهيم نفسه فصاح في توتر وغضب :

ـ كفوا عن هذا يا قوم , إننا لا نريد أن نلقي بأنفسنا إلى التهلكة , نريد أن نحيا بسلام .

وسُمعت أصواتٌ ممن لا عهد لهم بالحديث في مضافة الحاج :

ـ أجل ... نريد أن نعيش ببساطتنا , لا تحرمونا لقمة العيش .

ثم سادت بعدها لحظات صمت .. ثم تنحنح الشيخ وعاد لغط القوم فانبروا يتهامسون برعب كامن في أعماق نفوسهم , وكان جلياً أن هذا الرعب إنما ينبع من خوفهم على لقمة العيش . ونهض الحاج إبراهيم ليغذي مصباحه ليستمر الضوء الخافت في أرجاء المضافة , بينما كان شيطانه يغذي قلبه بالحقد والضغينة لتستمر العداوة بينه وبين هذا الضابط المخلوع .

أما الضابط المخلوع فقد كان يجيل ببصره في الوجوه المربدة يريد أن يكتشف فيها عبثاً بذور الثورة التي ينادي بها شيخه . لكنه لمح فيها بديلاً عما يريد , لقد وجد التشبث بالواقع مهما كان أليما ً , وحب تجرع الظلم من الأسياد مهما كان مراً , والنظر إلى ما دون والهيبة مما هو فوق . و آلمه ذلك كثيراً , وبات يفكر في الأمر بتمعن , ففي الغد القريب تنطلق صرخات الحرية , وتصطف البنادق في وجه الأعداء, فما عسى هؤلاء الدهماء فاعلون , وداهمه هاجس أنكره ,أيمكن أن تصم آذان هؤلاء وهم الحصب الذي ستضرم به النار ؟

انصرف جوان في تلك الليلة مهموماً مخبولاً وتبعه أصمان على عجل فأدركه وأمسك بذراعه وطلب منه أن يرافقه إلى بيته . ودخل جوان إلى الحجرة المنعزلة من دار أصمان وأسرع هذا إلى سراجه فأشعله , ثم خرج فأحضر طبقاً من الزبيب والتين المجفف وقدمه لضيفه فأخذ جوان يتناول شيئاً منه وهو يتلفت بنظره في أرجاء الغرفة التي تغيب عنها أدنى مظاهر الترف , أما أصمان فكان يستذكر ملامح الحاج إبراهيم حينما دخل عليهم جوان , ونبهه جوان من شروده حينما بدر قائلاً :

ـ هل من الممكن يا أصمان أن نقلق الأموات في ظلمات قبورهم ؟

 تلعثم أصمان وحار في الإجابة , فأسعفه جوان قائلاً:

ـ قد يكون ذلك ممكناً إذا أقلقنا رجال قريتكم .

أبتسم أصمان وشرع في الضحك لولا أن جوان بادره بالقول :

ـ انظر يا أصمان سأحدثك عن الصلاح وأهله . قُتل الصلاح فينا إذ ارتخت هممنا  وانتكست نفوسنا وانقلبت عن معاني الحياة إلى معاني الشهوات , ثم انقلبت من معاني الشهوات إلى معاني الخوف من الفناء . أُركسنا في الذل لما هان الذل على نفوسنا , وانقلبنا لقمة سائغة يسيل لها لعاب العدو عندما اطمأننا لذلك ولم يتحرك فينا ساكن , وغُوِّرنا في حضيض العبودية لما صارت الفئة التي تدعي الإصلاح سادة لنا فهاهي ذي تُخرج من عقولها الشهوانية مبادئ الإصلاح وتسنُّ لنا القوانين التي تُشبع شهواتهم وترضي أمزجتهم ... ونحن هائمون . فانقلب الإصلاح علينا أفسد من الفساد .

قال أصمان :

ـ أتعني الحاج إبراهيم وأمثاله ؟

ـ إن الحاج إبراهيم وأمثاله إنما هم صغار الفَسَدَة , وإنما هم من سيئات الإصلاح ابتلي بها القرويون, وينحصر فسادهم على من حولهم

ـ من عنيت إذاً ؟

ـ أرأيت إلى هذا الذي جاء من خلف البحر فغالى في أول الأمر في تودده للأكراد , ليوطد أقدامه على الأرض ويستولي على الموصل ويصفي الأرمن !!  والطامة الكبرى أن الأكراد انبهروا بشعاراته الطنانة واستبشروا الخير في وعوده المعسولة .

ـ ماذا علينا أن نفعل ؟

ـ علينا أن نوقظ الأموات من رقادهم .

ـ هل تراهم يفيقون وقد هدأت أرواحهم ورقدت أحلامهم ؟

 ـ لا بد من ذلك وإلا فإنها رقدة ما بعدها نهضة . لقد بدأ أتاتورك مسيرته في البلاد على نحوٍ من المكر والخديعة , فأدرك أهمية وقوف الكرد إلى جانبه وأقدامه لا تزال مرتعشة فوق تراب تركيا , حتى إذا ثبتت وتمكنت من الأرض أسفر عن الوجه الآخر .

بالأمس القريب كان يرى أنه لا بد من إعطاء الكرد أهمية تغررهم وتفتنهم وتقسمهم على بعضهم شيعاً وأحزاباً . وأقام الكرد على الود والولاء له وأيدوه بالأموال والأنفس والثمرات ... وكأنه يدافع عن قضيتهم  .

وتلقى فوق رؤوسهم منشورات كتبت فيها عبارات جميلة توقظ الأحلام في أخاديد النفوس والعقول :

" إن الحكومة التركية مصرة كلياً على نشر جميع مستلزمات الحضارة في وطننا العزيز كردستان تركيا ...... سوف تبلط طرقاتكم قريباً , وتمدد السكك الحديدية إلى مدنكم وقراكم ولا يبقى أطفالكم خارج المدارس ..... سوف تتمتع عوائلكم بالسعادة في حياة مليئة بالرفاه وإن الأمن والاطمئنان يمهدان السبل لرفع خيرات بلادكم ..... إن حياة وأملاك وشرف المواطنين مصانة بإخلاص في ظل النظام الجمهوري . "

وكان جوان محقاً فيما يقول , فلم ينس الناس بعد كل هذه العبارات التي ملأت عقولهم , وهم يتطلعون بعيون حالمة إلى ذلك الغد القريب ,  وينفرون من كل من يشكك في صدقها , لكنهم يتفاجؤون بإعدام أحد البدرخانيين , لا لشيء إنما بسبب نشاطه السياسي, ويلقى القبض على عدد آخر من أفراد هذه العائلة المعروفة بمكانتها وعلو شأنها .

إنهم يسمعون بمنع الوفود الكردية من مغادرة البلاد لتشارك في مؤتمرات شعوب الشرق , أوليسوا هم أيضاً من شعوب الشرق ؟ !

ولماذا يمنع التكلم باللغة الكردية وهم لا يجيدون سواها , لماذا يهجر المثقفون الكرد إلى خارج البلاد ؟

ماذا تغير في أوضاعهم ؟ وماذا تحقق من وعود أتاتورك ؟

ها هي الضرائب ذي تنهش جسد الفلاح , والأرض تلك تنتقل بشكل غريب من يد الفلاح إلى يد الملاكين حتى غدا عدد الفلاحين الذين يملكون الأرض قليلاً جداً .

وفي كل قرية من قرى كردستان تركيا تم تعيين شيخ من قبل الحكومة , لا يعلمون أهو شيخ يدعو الناس إلى عبادة الله أم هو دركيٌّ يدعو الناس إلى عبادة السلطان .

كل هذه الأحداث كانت تصفع الرجل الكردي وتريده أن يفيق من رقاده الطويل , ليصنع شيئاً في هذا العهد الجديد الذي سموه " عهد النظام الجمهوري " العهد الذي يريد أن يمحي أي أثر للأكراد في تركيا ويقضي على وجودهم .

ولو رجعنا الهوينى إلى قرية " كسروان " وانتقلنا صوب الحقول وتجولنا بين أشجار الزيتون لوجدنا كلستان جالسة في ظل شجرة صغيرة تحدق في الأفق البعيد وترقب انحدار الشمس إلى مغيبها, بينما تنحدر من بين أهدابها دموع عذبة تتلألأ على وجنتيها وتضفي على وجهها مسحة من الحزن الجميل . إنها سمعت من بنات عمها ومن نساء القرية عن مجيء شاب غريب إلى القرية . ورأت بأم عينيها كيف تتلهف الفتيات إلى رؤيته ولو من بعيد . ولا تنكر هي أيضاً أنها أحست بشعور غريب ينتابها لمجيء هذا الشاب الذي لا تعرف عنه شيئاً , سرعان ما يتلاشى عندما تتذكر ابن عمها جومرد وما هي مقدمة عليه .

كانت خائرة القوى تستند إلى جذع شجرة صغيرة تقلب ناظريها  في الأعشاب والأشواك التي تكاد تبتلع الأشجار الفتية . وكانت أشعة ذهبية لشمس الأصيل ترتد من قطرة ماء نقية تسيل على ورقة مدببة خضراء لشجرة زيتون فتية  , وقطرة الماء هذه كانت أجمل ما تكون وهي تبرق , وكانت أشبه ما تكون  بدمعة ظلت محبوسة بين أهداب هذه المسكينة , حتى إذا ضاقت بها الأهداب انتفضت وسالت بخشوع على خديها الحمراوين .

في هذه الأثناء كان جوان قد خرج من القرية صوب الأرض التي منحها إياه الحاج إبراهيم وراح يتفحصها ويجول فيها ويفكر كيف يبدأ العمل فيها .

وهو كذلك يروح جيئة وذهاباً في أرضه إذ حانت منه التفاتة إلى حقل مجاور لا يبعد كثيراً عن أرضه فوقعت عيونه على فتاة غضة تجلس في ظل شجرة صغيرة تبدو كأنها تبكي , فخطا نحوها خطوات هادئة حذرة حتى إذا دنا منها والتقت عيونه بعيونها الدامعة شعر بقشعريرة تسري في عروقه فجمد في مكانه وظل بصره عالقاً في الوجه الحزين البائس وظلت قدماه متشبثتان بالأرض وعبثاً حاول اقتلاعها و الدنو منها أكثر . فلما يئس من ذلك كره الهزيمة فبادرها بالتحية متلعثماً , لكنه كأنما أعلمها بالخطر إذ نهضت الفتاة خائفة مدهوشة وما استطاعت أن ترد عليه السلام بل استدارت وهمت بالفرار . وراعه الأمر وهو جاهل بطبائع أهل القرى ودخائل أمورها وتصاريفها فعاد أدراجه إلى أرضه يخطط للعمل وهو يتوجس خيفة مما أقدم عليه .

أما كلستان التي عاشت كالسجينة في بيت عمها فقد هالها الأمر وأدهشها وغالبها الحياء وارتعدت حينذاك فرائصها واحمر وجهها وأشكل عليها الأمر حتى وجدت نفسها مقهورة على الهرب . لكنها ما أن اختفت بعيداً عن الشاب حتى شعرت بالندم وتمنت لو أن تلك الساعة تعود فتصنع غير الذي صنعت ... فلقد أدركت حين ثابت إلى رشدها أن ذلك الشاب إنما هو جوان الذي تتكلم عنه الفتيات بلهفة , وراحت تعاتب نفسها وترى أنه كان حرياً بها أن ترد عليه السلام على الأقل , وظلت متوترة طوال الوقت وهي تفكر في جرأته على الدنو منها ومحاولة الحديث إليها في مكان كالحقل قد يراهما أي فلاح .

 واستحسنت أخيراً فعلتها إذ هربت ولم تندرج معه في الحديث فأنقذت نفسها من شرور كثيرة . ثم تذكرت مأساتها فعكفت تندب حظها وتبكي .

جلس جوان إلى الشيخ مصطفى كالو وانبرى يحدثه عن الفتاة التي لقيها تبكي في حقل من حقول الحاج إبراهيم بلهفة وشوق واهتمام . والشيخ يستمع إليه ويهز له رأسه وقد أدرك أنه إنما يعني كلستان . فلما فرغ جوان من كلامه أنشأ الشيخ يقص عليه قصة هذه الفتاة المغلوبة على أمرها وقصة أبيها رشيد  وأمها التي ماتت محمومة وأخيها الذي ضاع ولم يعد له من أثر . وأبدى جوان اهتماماً زائداً بأمر كلستان حتى راب الشيخ أمره . ولم يكن ينتهي حديث بينهما إلا بذكر كلستان وذويها فلقد كان جوان متعطشاً إلى الإحاطة بكل تفاصيل حياتها متلهفاً إلى تاريخ هذه العائلة التي لم تذر منها رياح الحاج إبراهيم إلا هذه الشمعة التي  تذوب رويداً رويداً ,  حتى أنه قال للشيخ ذات مرة : " لا بد أن ننقذ كلستان من براثن الحاج "  .

تردد جوان إلى الحقل في الأيام التالية , وكان يطيل الوقوف قبالة الحقل الذي رأى فيه كلستان حتى إذا بانت له مضى نحوها فيراها تبتعد وتتجنب نظراته فيرجع الهوينى  ويمكث في مكانه , حتى كانت مرة ظهرت له كلستان على غير الهيئة التي عرفها فأومأ لها أن تمكث في مكانها وخبَّ مسرعاً إليها فما برحت مكانها وظلت واقفة تقول في نفسها " فليحدث ما يحدث " , فوقف قبالتها وقال لها :

ـ مرحباً يا كلستان .... أريد التحدث إليك .

فارتبكت كلستان وراحت تلتفت يمنة ويسرة ,تخشى عيون الناس ولا تدري ماذا تصنع وقد صمدت هذه المرة ولم تنقذ نفسها , فاستطرد جوان قائلاً :

ـ قد علمت قصتك يا كلستان , ويجب أن أنجدك .

فقالت في حياء :

ـ ومن تكون ؟؟ وما دخلك في قصتي  ؟

فأجابها متلهفاً :

ـ ألم تسمعي بالشاب الغريب الذي أوى إلى قريتكم ؟

أجابت وقد غالبها الحياء فاشتدت حمرة وجنتيها:

ـ بلى.

ـ قد شغلني أمرك يا كلستان .

ـ أمري ؟   .. وما الذي شغلك منه ؟

ـ الظلم الذي يحيق بك في دار عمك , والظلم الذي قد أحاق بأهلك من ذي قبل .

أحست كلستان بخطورة الأمر وشعرت لوهلة أن الدنيا كلها تتطلع إليها بأعين الشك والكل يشير إليها بأصابع الاتهام , وتذكرت عمها الحاج إبراهيم فارتعشت وقالت وهي تهم بالانصراف :

ـ يجب أن أذهب الآن .

وتسللت مسرعة بين أشجار الزيتون وعادت  إلى حيث كانت تعمل مع بنات عمها وتلفق لهن الأعذار لغيابها وتأخرها , ثم طفقت تعمل  بجد ونشاط فقد امتلأ قلبها للتو بالأمل امتلاء الوردة بندى الصباح , وأشعت من محياها إشراقة الوجه الصبوح , كالوردة تندت فتلألأت فتفجرت عبقاً , فأضفت على الدنيا حبوراً ولألاءً , ونسيت لبرهة كل  ساعات العذاب ... كل أيام الذل والشقاء , وشعرت كأنها فراشة ذات ألوان زاهية انطلقت لتعبث بأوراق الزهور في هذا الحقل الجميل , وتحولت الأشواك المحيطة بجذوع الأشجار إلى محطات مفروشة تحط عليها بتؤدة . وأخذت تنظر في الوجوه المحيطة بها فتراها ضاحكة مستبشرة , ثم أرادت أن تفيق على الواقع فأبى قلبها إلا أن يغوص إلى أعماق أعماق الحلم الجميل الذي راح يداعبها . 

وفي نفس الوقت دخل جومرد على أبيه مغاضباً وقد عقد العزم على أمرٍ لا مناصَ منه .

واستقبله الحاج إبراهيم بشيءٍ من الاستغراب , ظن أول الأمر أن شيئاً ما في الحقل أغضب ابنه , فبادره بالسؤال :

ـ ما بك يا جومرد , ما لي أراك منقلب السحنة ؟

فأجابه جومرد بحدة :

ـ أبي .... أنا لن أبني بكلستان .

قال كلمته تلك وتراجع خطوتين إلى الخلف , فتقدم منه الحاج ووضع كلتا يديه على كتفي ابنه وقال بهدوء :

ـ بل ستتزوجها يا بني لأني لم أعهد فيك حماقةً , ولا أعرفك عاقاً .

ـ لا أكون أحمق إلا إذا تزوجتها دون ابنة خورشيد اينالو .

أسبل الحاج كلتا يديه وراح يحدق في ولده فاغراً فاه كأنه لا يصدق ما يسمع :

ـ قلت ابنة خورشيد اينالو ... ؟

ـ أجل يا أبت ... إنها وحيدة أبيها ... وقد كابدت طويلاً حتى جذبت انتباهها إلي , وأنا واثق أنها لن ترفضني البتة .

أطرق الحاج يفكر في أمر ولده وقد أخذته الحيرة . فهذه ابنة خورشيد اينالو الوحيدة وغداً تؤول إليها كل الأملاك فيظفر بها ابنه جومرد . وتلك ابنة أخيه التي ضم أراضيها إلى أراضيه وخشي أن ينتزعها منه أحد فتجزأ أرضه , وتؤول أملاك أخيه رشيد إلى الغرباء . ولم يطل به التفكير إذ سرعان ما دله شيطانه إلى الرأي فقال لابنه :

ـ ستتزوج كلستان ... وبعد حين سأخطب لٍك ابنة خورشيد اينالو .

" أي شيطان هذا الذي يملي عليك " ... قالها جومرد في نفسه ولم يبدها له , ثم استأذن بالانصراف ووجهه لم يتغير , بل زاد امتعاضاً وشذراً . بينما ظل الحاج إبراهيم مبهوراً بالرأي الذي ارتآه . وأخذ يلوم نفسه إذ غابت ابنة اينالو عن باله طوال هذا الوقت وانتبه إلى نباهة ابنه جومرد وهو يقول في نفسه " الابن سر أبيه " . ثم عزم على الإسراع في زواج جومرد من كلستان حتى يمضي في خطبة الأخرى .

 .....................................................  7  ....................................................................

 جلس الشيخ مصطفى في مضافة الحاج إبراهيم وعلامات الغضب بادية على وجهه وما أن أخذ الرجال من حوله مواضعهم حتى شرع يتحدث بنبرة حادة :

ـ أيها القوم : إني محدثكم اليوم وقلبي يتلهف للحديث , وأرجوا أن يلقى كلامي موضعاً في قلوبكم فلا يضيع سدى , أرأيتم إلى أرضكم إن أجدبت والسماء من فوقها أمسكت وحنت قلوبكم إلى سحابة غيداء تروي ظمأ أرضكم , فكذلك أحن إلى السحابة التي تغدق على عقولكم من نورها , فتمحق ظلمتها وتطرد من قلوبكم بقايا القحط والجدب .

إن نفوسكم أجدبت ولم تبق في زواياها الحالكة إلا نثرات من تراب أرضكم المجدبة ولم تنتبهوا إلى حالكم يوماً . والأرض هذه مرآة لنفوسكم والحال تلك نتيجة لتدبيركم . وما أودى بكم إلى هذا الحال التي هي أول الهلاك إلا بما فرطتم به من الحقوق والفرائض وبما أسلفتم من السوء لأهليكم .

تنهد الحاج إبراهيم وكان قد احمر وجهه وانتفخت أوداجه إذ تيقن أن الشيخ إنما يتقصده بالحديث دون غيره, وعلم الرجال من حوله ذلك وشعروا ببوادر عاصفة هوجاء تقضُّ مجالسهم . وحدَّق الجميع في الحاج إبراهيم وهو يحدج الشيخ , ومرت كالبرق لحظة سكون قطعها الحاج إبراهيم قائلاً :

ـ ليس فينا سفاحٌ ولا زان فبأي الجرائر جعلت نفوسنا حالكة أيها الشيخ ؟

ولم يتوانَ الشيخ عن الإجابة فقال :

ـ بترككم فرائض الله .

قال الحاج مبتسماً في سخرية :

ـ أما الصلاة فكلنا نؤديها , وأما الصيام فلن تجد فينا من يفطر يوماً من رمضان , وأما .....

وقاطعه الشيخ قائلاً :

ـ وأما بنعمة ربك فحدث ... بوركتم في ذاك , ولكنكم نسيتم فرائض أخرى .

ـ مثل ماذا ؟

ـ مثل قوله تعالى " للرجالِ نصيبٌ مما ترك الوالدانِ والأقربونَ وللنساءِ نصيبٌ مما تركَ الوالدانِ والأقربونَ مما قلَّ منهُ أو كثر , نصيباً مفروضاً " .

تنحنح الحاج إبراهيم ثم قال :

ـ ما كان آباؤنا الأولون يؤدونها , ونحن على ما وجدناهم ماضون .

ـ لكن أيها الحاج : للنساء حق معلوم في أموالكم أضعتموه بجدب نفوسكم , وإذا تعلقت النفوس بمعاني التراب فمحال أن تظفر بشيء من النور , فهي لا تزال تغوص في ذرات التراب حتى يكون التراب هو آخر ما تطفأ عليه العين .

وتعلقت العيون من جديد بالحاج إبراهيم وكأن في القوم رجل واحد هو يسمع وهو يجيب.

تبسم الحاج إبراهيم كعادته حين يبحث عن مخرج , ثم نظر يمنة ويسرة " فكأنه ما وجد أحداً من حوله " فثبت نظره في الشيخ

وقال :

ـ إننا والله نهب نساءنا ميراثاً أعظم مما ذكرت , ونساؤنا لن تنتفع بالتراب ومعاني التراب , وإنها لمنتفعة والله بما نترك لهن من ميراث .

وظلت بسمة خافتة عالقة على شفتيه والرجال من حوله يتلهفون لمعرفة ذلك الميراث الذي يتركونه لنسائهم وهم لا يعلمون .

وسأل الشيخ قائلاً :

ـ أفصح يا حاج ... فما تقصد بميراثك ؟

وأسرع الحاج بالإجابة فقال :

ـ الأخلاق ....أغلى كنوز الدنيا , تكتفي بها نساؤنا فلا تسألن بعدها عن شيء . هل تنكر ذلك يا مصطفى ؟

ـ لا ...لا أنكر ذلك أبداً . وصمت وهو يقول في نفسه : " فاقد الشيء لا يعطيه " .  ولم يشأ أن يجادل الحاج وقد أدرك أن حفنات من تراب الأرض أغلى عنده من ملكوت الله , فحزن لذلك أشد الحزن إذ كان يأمل أن يجد عند الحاج إبراهيم شيئاً من الورع ما يستطيع أن ينفذ من خلاله إلى القلب المظلم فيبث فيه شيئاً من النور يبدد الظلام المستفحل , وما دفعه إلى ذلك إلا تفكره الطويل في أمر كلستان وما حاق بأهلها من الظلم , وذلك الشاب الذي قدم إلى القرية وشاطره منزله وآنسه وحدته , فهو لا ينفك يلح عليه أن يحدث الحاج إبراهيم في أمر كلستان ويقف بجانبها في كشف الظلم عنها . وقد شعر بالعبء يلقى على كاهله فاستعظمه أمام عناد الحاج وقلبه الأسود . بينما كانت كلستان في تلك الأثناء مستلقية على فراشها متدثرة بغطاء رقيق تتظاهر بالنوم حتى لا يقطع عليها أحلامها أحد . فلقد كانت تسترجع اللقاءات العذبة مع جوان , وكيف تتسلل متخفية من بين الأشجار لتقابله وتفضي إليه بمكنون صدرها في منأى عن عيون الرقباء , وتنعم بساعة من السعادة وهي تشعر ببذور أوراد جميلة قد ألقيت للتو في صدرها فتراها تنتش عما قريب وتنمو الورود وتتفتح . وتحس كأن الهموم القابعة في زوايا صدرها تنتزع منها انتزاعاً حينما تدرج في الحديث عن كل تفاصيل حياتها لجوان . ويفعم قلبها بالأمل عندما يحدثها جوان عن الصباح الذي سينشر النور في كل البقاع , وكانت تجد نفسها صغيرة جداً أمام جوان وكثيراً ما كانت تهز له رأسها دون أن تفهم من كلامه شيئاً ... لكنها الآن على فراشها تحتار كيف تسمي ذلك الشعور الذي لا ينفك يراودها ويجعلها تتلهف للقاء جوان وتذوب حياءً بين يديه , إنها تعشق الكلام الذي تبوح به شفتاه , وترتعش للهمسات العذبة وتحس بها تسري في عروقها فيبرد جسدها البض وينبض قلبها لوعة ًورجفةً وشوقاً .

إن مجرد اسمه صار يملأ حياتها بهجة , ومجرد وجوده في القرية يطرد الحزن الممض الذي يعصر قلبها , ويجعلها تسلو بعض الشيء عن كل ما ينتظرها من البؤس , إنها لا تريد أبداً أن تفيق من غفوتها الحلوة إلا على همسات جوان .

وجوان كان الشاب الذي تلتقي فيه الصفات الفاضلة فقد كان دقيقاً هادئاً مرحاً واسع الخلق طيب النفس لا يهدأ لظلم حتى يرده ولا يرجع عن أمر عقد العزم عليه حتى يظهره . واشتدت أواصر المحبة بينه وبين الشيخ مصطفى وعاهده على بذل قصارى الجهد في دحر الظلم عن كلستان .

وكان يتأتى أجره في ذلك كلمات طيبة من الشيخ فتنسيه تعب الأيام ومشقاتها . وكانت كلستان تتلقى جزاءها صفعات  تدوي على جبينها وتجعل كل أوصالها ترتعش .

قال لها جوان ذات مرة :

ـ كلستان .... إنك ملاك في صورة بشر . والبشر لا يحفظون للملاك معانيه , إن استطاعوا بدلوها وإلا فإنهم في عراك معه شديد .

أجابت كلستان في خدر وحياء :

ـ لا أفهم كلامك يا جوان .

ـ كلستان .... عليك أن تنهضي من غفوتك وتنظري إلى واقعك ... إنك الآن لا تزيدين على كونك جارية يملكها الحاج إبراهيم  , ولست ابنة أخيه رشيد وصاحبة نصف الأرض .

فتجيب كلستان واليأس بادٍ على محياها :

 وماذا بمقدوري أن أفعل ؟

ـ طالبي بحقوقك , واجهي عمك , لن يضيع حق وراءه مطالب .

ـ لكني لا أملك تلك القوة يا جوان , ولم أفكر يوماً في الأرض ... فالأرض للأقوياء . أما النساء في قريتنا فلا حق لهن في امتلاك شيء .

 وصمتت برهة ثم أردفت قائلة :

ـ إننا نعيش يا جوان  ... نعيش فحسب . وذلك كل ما نبغي .

أجل ذلك كل ما يبتغيه الضعفاء في زمن كادت أن تسحقهم نعال الأقوياء  .

كلستان المسكينة  كانت كالشمعة الخجولة في الليلة الظلماء , تذوب رويداً رويداً لتنير للآخرين ... دون أن تذكر لنفسها حقاً مكتسباً . كانت تعيش بلا حقوق في عالم كان يدوس على كل الحقوق , عالم تنتصب فيه هامات الطغاة , ومن تحت أقدامهم .... أكتاف المعدومين . ... " إن لم تنهضي يا كلستان ... فما لك من حياة ... وهذه الجبال ستغضب منك ... وتلك الشجيرات ستحزن عليك ... وأزاهير الربيع ستشتاق إليك ... ارفعي صوتك وطالبي بحريتك فهذا يومك ."

كذلك كانت كلستان تحلم وتتذكر ما كان يحدثها جوان حين انتبهت إلى صراخ عمها في الخارج كأنه زئير أسد هاج في وجه عدوه , فذعرت وانقبضت في فراشها وخبأت رأسها تحت الدثار خوفاً وهلعاً .

ازداد الصراخ واللغط واستطاعت كلستان أن تتميز اسمها يتردد بسخط واستطاعت بحدسها أن تعرف سبب الصراخ .

كان عمها يصيح بصوت عالٍ :

ـ أين تلك الفاجرة  ؟

وكان الضجيج يدنو من حجرتها حتى إذا اشتد دُفع باب حجرتها بشدة وشعرت بخطوات ثقيلة تتجه نحوها , ثم أزيح الدثار عنها فالتقت عيونها بعيونه الحمراء المتوهجة .

كانت كل نساء البيت واقفات خلف الباب , ولا تجرؤ إحداهن على الدخول , كانت الدموع تترقرق في أعينهن وتولولن كلما سمعن صراخ الفتاة .

الفتاة التي ما كانت لتنجو من موت محتم لولا أنها فقدت وعيها وانطرحت كأنها جثة هامدة بين يدي عمها , مستسلمة لقبضته المتينة , فألقاها الحاج على الأرض وخرج منتشياً بانتصاره بينما هرعت النسوة إليها وهن يبكين .

وكان هذا الضجيج الذي انبعث من دار الحاج قد أقلق القرية بأسرها , فسرعان ما اجتمع رجال ونساء من هنا وهناك ليعلموا ما الأمر فلما وقفوا على الفتاة التي لا تثوب إلى رشدها حتى تفقده ثانية هالهم الأمر وأحزنهم , وامتعضوا كثيراً دون أن يسألوا عن السبب . فهذه اليتيمة لا يصح ضربها مهما كانت الأسباب . وكان من بين الذين هرعوا إلى دار الحاج إبراهيم الشيخ مصطفى الذي هاج وخرج عن طوره وراح يشتم الذي ضرب الفتاة قبل أن يدري بالأمر , فلما قيل له أن الفاعل إنما هو الحاج إبراهيم توجه إليه من فوره فوجده قد اختلى في المضافة يلهث من التعب ويتأجج من الغضب وينتصب واقفاً ثم ينهار جالساً كأنما لم يشف غليله بعد . واقتحمه الشيخ مصطفى بأكثر منه غضباً , ودون أن يلقي عليه بالتحية بادره بالسؤال :

ـ كيف تضرب فتاة يتيمة لا قوة لها يا حاج ؟

فانتفض الحاج وقد وجد في مجيء الشيخ نفثةَ مصدور فصرخ وهو يلهث :

ـ إنها تريد أن تمرغ وجهي في التراب ..... تريد أن تلحق بنا العار .

قال الحاج وقد داهمه شيء من القلق :

ـ وماذا فعلت ؟

ـ إنها تختلي بجوان ... والله ما ارتاحت له روحي مذ أتانا , وما عهدت فيه نخوة الرجال أبدا , أهكذا جزاء الإحسان ؟؟؟

ـ خفِّض عليك يا حاج ,  هل تقصَّيت الأمر جيداً ؟

ـ كثيرون رأوهما رأي العين .

ـ " إن جاءكم فاسقٌ بنبأٍ فتبيَّنوا أن تُصيبوا قوما ًبجهالةٍ فتُصبحوا على ما فعلتُم نادمين " .

ـ لن أصبح من النادمين إلا إذا سكت عن الأمر , يجب أن أضع حداً لهذا الأرعن .

ـ أنصحك أن تتريث قليلاً , وأنا سوف أفاتح جوان بالأمر وأفهم منه كل شيء .

ـ لا تفعل شيئاً يا مصطفى أنا سوف أتصرف , وأطلب منك ألا تتدخل في شؤون بيتي .

احمر وجه الشيخ غضباً وخجلاً وتذكر أن الحاج إبراهيم قد طلب منه مراراً وتكراراً ألا يتدخل في شؤون بيته وأنه كاد أن يودي به جرَّاء ذلك , فخفض من لهجته وهو يقول :

ـ ما تدخلت في شؤون بيتك إلا لأن رشيد أوصاني بابنته  .

ثم استدار يريد الانصراف , لكنه قبل أن يتوارى خلف الباب صاح بحدة :

ـ إذا أصيبت كلستان بمكروهٍ فلا تلومَنَّ إلا نفسك .

واختفى في الظلام تاركاً الحاج إبراهيم يغتاظ من هذا التهديد الصريح ويفكر إلى أي مدى يمكن أن ينفذ الشيخ تهديده .

وفي الصباح علم جوان بما حدث لحبيبته فثار الدم في عروقه وانتفض الغضب في صدره وهانت عليه الدنيا حتى لكأنها لا تزن دمعة واحدة تنحدر من مقلة كلستان , وامتعض كثيراً إذ أدرك أنه هو السبب لِما حدثَ لها وهو الشريك في التهمة التي أُلقيت عليها . فتوجَّه من فوره إلى الشيخ مصطفى وأفكاره تتلاطم في عقله حتى لكأنها أمواجٌ متضاربةٌ في بحرٍ لجيٍ .

فلما لقي الشيخ قال له :

ـ أحقاً ضُربت كلستان يا شيخ مصطفى؟

ـ أجل ... وأهينت وأوذيت شر إيذاء .

ـ ألأنها وقفت معي في الحقل وبادلتني الكلام ؟

ـ ولأبعد من ذاك .

ـ والله ما بلغ الأمر بيننا أبعد من ذاك , فمن اجترأ وحدث بما لم ير فحق عليه العقاب .

ـ لم يدع الحاج إبراهيم باباً إلا وأقفله .

ـ ماذا تعني ؟

ـ لقد صدق ما أتى به الفساق دون أن يتبين .

ـ إذاً سوف أمضي إليه الساعة فأطلعه على جلية الأمر .

ـ إياك وذاك فهو الآن في أوج غضبه .

وألح جوان على الشيخ أن يمضي معه إلى الحاج عوناً له , وظل الشيخ يهدئ من حماسه ويطلب منه أن يتمهل إلى المساء , وبينما هما كذلك سمعا وقع خطى ثقيلة انتهت إلى الباب واشتد الطرق على الباب بشكل مفزع , ونهض الشيخ ففتح الباب فاندفع الحاج إبراهيم إلى داخل الحجرة يشتعل غضباً , وراعه أن رأى جوان  جالساً لدى الشيخ وقد كان يظن أنه لا بد هرب من القرية , فاندفع إليه يريد ضربه فنهض جوان وقاوم ضربة وجهها إليه الحاج وأسرع الشيخ مصطفى فقبض بكلتا ذراعيه على الحاج فشلَّ حركته فهاج الحاج وراح يصيح بكل ما أوتي من قوة :

ـ دعني أيها الشيخ , سأحطم رأسه وانهي ذكره .

والشيخ من خلفه يشد الوثاق أكثر وهو يقول :

ـ لقد جننت أيها الحاج , اهدأ وتبين الأمر , فما سمعته من الناس لا صلة له بالحقيقة .

وعبثاً حاول الحاج إبراهيم أن يتملص من بين ذراعي الشيخ بينما راح جوان يقول له :

ـ أقسم لك يا عم ليس بيني وبين كلستان ما يغضب الله .

ـ ألا تختلي بها ؟  هل الخلوة مشروعة عندك ؟

ـ ما اختليت بها إلا لأساعدها .

ـ فيم تساعدها ؟

ـ إهدأ لأخبرك . وأومأ جوان إلى الشيخ أن يخلي عنه فأرخى الشيخ ذراعيه وأقعد الحاج وهو يذكره بالحلم والتدبر والرزينة .

قال جوان :

ـ يا عماه إني وجدت كلستان يتيمة تقطعت بها الأوصال فحرمت حنان الأب مذ كانت طفلة وصدمت بموت الأم وهي يانعة , ففي قلبها شرخ من الحزن الممض والأسى القاتل , وقد جزع قلبي حينما علمت بحالها ,  وآسفني إذ غفل عنها شبان القرية وهي بأحوج ما تكون إلى زوج يعوضها ما فقدت .

انتفض الحاج إبراهيم وانتصب واقفاً وهو يرتعش غضباً وصاح كالمخبول :

ـ كف عن الثرثرة فقد علمت مرادك , وبعيدٌ عنك ذاك المراد .ثم خرج من الحجرة وهو يهذي مع نفسه .

لكن جوان طلب من الشيخ أن يكلم الحاج إبراهيم في خطبة كلستان له إذا هدأ روعه , فهو عازم على الزواج منها وإنقاذها من هذا الطغيان مهما كلف الأمر .

ومضى الشيخ إلى الحاج إبراهيم ليكلمه في أمر كلستان وهو متيقن أن الحاج لن يوافق بسهولة ,فلما اختلى به أخذ يحدثه عن مناقب جوان وأخلاقه الفاضلة والحاج يستمع إليه ويهز له رأسه بلا مبالاة , فلما صمت الشيخ قال له الحاج :

ـ إن صاحبك هذا ليس فيه إلا خصلتان , حب الفتنة وفتنة الحب .

ـ وما يضرك في ذلك إن كان غرضه شريفاً ؟.

ـ ما هكذا يكون الشرف .

ـ لكنه الآن يريد خطبتها , " وإذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه , إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ".

هاج الحاج من جديد وارتعش وهو يصيح بجنون :

ـ لا .

لكنه انتبه لنفسه فحاول أن يمسك رباطة جأشه و ران عليه صمت مخيف وبدا وكأنه يعالج في نفسه أمراً خطيراً ما أن أدرك عواقبه حتى انتفض من جموده وهو يصيح :

ـ لا ... لا يا شيخ , لا يمكن أن يحدث ذلك وإلا ... تكن فتنة في الأرض وفساد كبير .

ـ إنك تهذي يا حاج , فهذي كلستان قد بلغت سن الزواج وآن لك أن تعتقها لتتزوج الشاب الذي يحفظها ويرعاها .

فأجابه الحاج على الفور  :

ـ قلت لا , لأني سأزوجها ابني جومرد .

وهنا صمت الشيخ وران عليه الوجوم فلبث برهة لا يدري ما يقول وقد فاجأه الحاج بالأمر  , ثم نهض وهو يقول :

ـ فليبارك الله هذا الزواج .

وانصرف وهو يجر أذيال الخيبة  , وقد أيقن في نفسه أن الفتاة إنما خلقت للعذاب والشقاء , فتنزى قلبه ألماً ولم يدر بما يقابل جوان الذي ينتظره بفارغ الصبر .

لكن جوان ما أن لمح الشيخ يمشي مثقلاً يجر بعضه بعضاً وعيونه محمرة تكاد تدمع و وجهه مجللٌ بسحابةٍ من حزن وألم حتى هرع إليه يستوضح الأمر , لكن الشيخ ظل صامتاً لا يدري بما يجيب .

قال جوان بصوت خافت مرتعش :

ـ لم يوافق أليس كذلك ؟

فعطف عليه الشيخ فأمسك بكلتا ذراعيه وأجابه:

ـ لقد فعلنا ما بوسعنا بابني , لكن مكر الحاج أشد وأدهى .

ـ ماذا قال ؟

ـ يريدها زوجةً لابنه جومرد .

وسقط في يد جوان ودارت الدنيا من حوله وانهارت قواه فخر على الأرض وهو يتميز غيظاً وحنقاً , وبدأت عيونه تفيض بالدمع, فخرجت من حلقه غصة , ولم يلبث أن جهر بالبكاء . وأخذ الشيخ يربت على كتفيه ويمسح على شعره , وهو يحاول أن يهون الأمر على جوان وقد كان بأمس الحاجة إلى من يخفض الأمر عليه , فقد كان شديد الأسى إزاء كل أمر يعجز أمامه ,وكان شديد الحنق قبالة فشل ذريع حاق به , فلقد كان يأمل أن ينجد كلستان ويخلصها من الشقاء الذي ما برحته لحظة في دار عمها , ويوفي بعهد قطعه على نفسه أمام والدها, ويثلج صدر الفتى النبيل الذي يحمل الكثير من الأعباء ورضي أن تكون كلستان عبئاً إلى تلك الأعباء الجمة .

وأما كلستان ...صاحبة القلب الكسير , فقد كانت تجهل كل ما يحدث , ولا تعرف إلا أن عمها قد أعلن على الملأ موعد زفاف ابنه جومرد في أول الربيع المقبل , فكانت تشهق بالبكاء حينا ً بعد حين ,كلما استعر في أحشائها أوار الحب واضطرمت نيران الشوق ... الشوق لجوان الذي ما عادت تحلم بلقائه , والشوق للخلاص من هذه الجدران المخيفة التي تختزن كل صور الشقاء والحرمان , وهي لا تجد لنفسها متنفساً إلا في البكاء ,فهذا القدر قد حتم عليها البؤس , وهي الآن خارجة من حجرة لتدخل في أخرى مثيلتها أو أشد ظلمة منها , وتبقى تحت رحمة عمها وابنه, ويستمر شقاؤها في أعمال الأرض ,وتستمر الليالي الموحشة , وعما قريب تخرج كل من عائشة وروخاش من هذه الدار , وتبقى هي بلا أنيس ولا جليس , وحيدة في أرجاء الدار وفي أنحاء الحقل الواسع .

كانت تنتفض كلما تتذكر ذلك وتفقد رباطة جأشها وتنهض كأنما تريد أن تصرخ في وجه الجميع كما أوصاها جوان .... لكن ذلك هراء .... فماذا لو أنها وقفت حقاً في وجه عمها ورفعت صوتها وقالت : " لن أتزوج إلا من جوان " إنها أضعف من ذلك بكثير ... لقد زرع عمها في صدرها رعباً لا تنزعه الأيام . لكن كيف للأحلام أن تتبدل ما بين ليلة وضحاها ؟ أيمكن أن تنسى جوان وعذب كلامه وحلو أنغامه , وتنسى معه الأمل في حياة بعيدة عن بيت الحاج إبراهيم وعن حقوله , وتعلن منذ الليلة مأتم الحب وانتصار القوة ,ولا تعود إلى الأحلام التي أقضت مضجعها , فإنها فتاة لا ينبغي لها أن تحلم بشيء . ....

 ....................................................  8  ...............................................................

 ولو عدنا إلى جوان لوجدناه ساهماً واجماً مختلياً بنفسه يتحاشى الناس, لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت , وقد سقط في يده إذ عدل لفترة غير وجيزة عن مهمته التي من أجلها غادر " آمد " ومن أجلها غامر وخاطر بحياته وقطع الشعاب واختبأ في هذه القرية , وراعه أن شغل طوال الوقت في أمر كلستان دون جدوى .  فقد كان يظن أن إنقاذ هذه المظلومة من ظلم عمها لهو أشبه بإنقاذ الشعب المكلوم من ظلم أتاتورك . وطفق يفكر في السبل التي تدنيه منها وتمكنه من التدخل في أمورها, حتى حدث ما حدث ووجد نفسه مرغماً على خطبتها , ومع أنه استعظم الأمر على نفسه إلا انه وجد في خلاص المسكينة من عمها العذول الثقيل انتصاراً آخر لضحايا الظلاّم .

وسواءٌ عنده أحظيت بعد ذلك بأرضها أم لم تحظ فالأمر سيان . وامتعض جوان امتعاضاً شديداً لما وجد نفسه قد فشل في تحقيق أحد الحسنيين , فلا أنقذ الفتاة من تعسها ولا سار في مهمته فحدث الناس بأمر الشيخ سعيد بيران .

غير أن الشيخ سعيد بيران في تلك الأثناء كان قد نفض عن نفسه غبار الكهولة وتأبط السلاح وأعلن للملأ من حوله أنه على أتم الاستعداد لأن يلقي سبحته ويترك أهله ويلبس ثياب الثورة . وكان قد لمح الخنوع في وجوه رفاقه واستشعر ضعف الهمم لديهم .

ولم يهدأ للشيخ سعيد بال , فقد كان عليه أن يجوب أنحاء كردستان غربها وشرقها , جنوبها وشمالها , ليوحد كلمة العشائر المتناثرة ويوقظ المتوجعين في نومهم ليطردوا عن أنفسهم كل بواعث الكوابيس .

وكانت " بالو " محطته الأولى , بعد أن ترك مسكنه في " خنس " خشية الاعتقال , إذ كانت الحكومة التركية ترقب الأحداث من طرف عين ,وتتنبأ ببذور اضطراب يعم البلاد , فقامت بحشد ست فرق مشاة في مناطق قارص وسعرد وماردين ومديات .

كما أخذت تشدد الرقابة على الناس وتوسع حملات الاعتقال, وخاصة للمشايخ والمثقفين الكرد , رغبة منها في ضبط زمام الأمور وإخماد النار المستعرة في قلوب الناس , بعد أن انكشفت النوايا وحلقت بعيداً كل الآمال في العهد الجديد  .

وفي هذه المعمعة أدرك جوان أن عليه أن يغادر القرية فوراً لعلَّه يحظى بنجاح في الخارج , فمضى إلى الشيخ مصطفى كالو وأخبره بالأمر , لكن الشيخ حاول أن يثنيه عن أمره رأفة به وشفقة على كلستان وأملاً في أن تصنع الأقدار شيئاً ليس في الحسبان , فلما وجد إصراره على الرحيل قال له :

ـ امكث لدينا أياماً أخر ,فقد عزمت على معاودة الكرَّة .

فأجابه جوان :

ـ لم يعد ذلك يجدي نفعاً , لقد يئست من الأمر .

ـ أيهون عليك أن تترك كلستان هكذا ؟

ـ أنْ أُبعد عنها وأُحرم رؤيتها أهْوَنُ عليَّ من أن أراها تشقى أمام عيني .

ـ ناشدتك الله أن تصبر أياما ً أخرى .

ـ إن كان لا بد فلا أمكث أكثر من يومين .

ـ لعل ذلك يكفي إن شاء الله , وسأفعل ما بوسعي وعسى أن يوفقني الله .

وكان الشيخ ينتظر معجزة من السماء , وكان على أهبة الاستعداد لأن يفعل أي شيء كي يبقي جوان في القرية , لكنه كان يجهل تماماً ما حصل لأصمان حينما أدرك المصيبة التي ألمت برفيقه جوان , فقد آلمه الأمر واضطربت لواعج نفسه وراح يفكر في حل ينقذ كلستان من ظلم عمها ويخرج جوان من المأزق الذي وقع فيه . وعكف في بيته يسترجع غصات الأمس ويتأمل في سيئات الحاج إبراهيم طوال العقود المنصرمة , فكان من بينها وشاية الحاج بالشيخ في يوم الأرمن , وصورة الشيخ مكبلاً بقيود الجندرمة يذل وهو الكريم ويهان وهو الرفيع , وتذكر أنه يومها عاهد نفسه أن يردها للحاج ولو بعد حين , وينظر إلى كلستان فيراها ابتهجت إذ تفتحت عيونها على المستقبل المشرق لما وجدت من ينتزعها من التربة الملوثة , ويراها انتكست وزادت بؤساً إلى بؤسها لما فُصل بينها وبين جوان , وقد كانت بالأمس راضية بتعسها قانعة بذلها .

 لقد حان الوقت لتصفية الحساب , وبمقدوره الآن أن يمضي في أمر عزم عليه , فيشفي غليله من الحاج , ويخلص كلستان من براثنه ,ويساعد جوان في أمره .

ويكاد يهم به لولا أنه يتذكر في كل مرة حبيبته عائشة , التي تعلق بها قلبه فأبى أن يفقدها ,وعلم من قريب أو من بعيد أنها هي الأخرى أسيرة حبه وتنتظره بفارغ الصبر كي يتقدم لخطبتها وينتزعها من دار والدها .

وظل يتقلب ما بين الأمرين وقلبه يتلظى ناراً , لا يكاد يهدأ له بال ولا يقر له قرار , وغادره النوم فما عاد يعرف له طعماً , فذبلت عيناه وشحب وجهه وهو لا يزال مختلياً بنفسه, ويعجب كيف أهمله الناس فما سأل عن حاله أحد ولا حتى جوان .

وانتبه في آخر الأمر إلى ما غفل عنه ..... أتخلص ابنة الحاج من ظلم أبيها وتبقى كلستان تتجرعه إلى الأبد ؟؟

حري بعائشة أن تتذوق طعم الشقاء في بيت أبيها ما دامت كلستان تشقى فيه , فإن كانت صفعات الأب لها مؤلمة فهي لكلستان قاتلة . ثم لم يهدأ له بالٌ حتى مضى في الأمر الذي كان قد عقد العزم عليه  .

كان قد بقي لجوان يوم ٌ واحد في قرية كسروان عندما دخلت إليها الجندرمة مدججةً بالسلاح وراحوا يسألون الناس عن دار الحاج إبراهيم , فدلوهم عليه فانطلقوا وأحاطوا بالدار وداهموه فوجدوا الحاج يهم بالخروج , فأطبقوا عليه وراحوا يقيدونه بالقيود والأصفاد وهو مدهوش مرعوب لا يعي شيئاً , لكنه أطلق صرخة مدوية سمعها كل أهل القرية :

ـ ماذا فعلت لكم ؟؟

فاقترب منه صاحب الجندرمة وقال له في لهجة ساخرة :

ـ تموِّل المارقين وتتآمر على الحكومة .

يا لسخرية الأقدار .

ـ أنا ؟؟؟؟؟

ـ أجل أنت . وأومأ إلى رجاله فدفعوا الحاج أمامهم مكبلاً بالقيود والناس يتخبطون في أمرهم لا يدرون ما يصنعون .

يا لسخرية الأقدار ... أتلقى التهمة عليه بالتآمر على الحكومة وهو الذي لا يفتأ يدافع عنها في كل مجالسه , ولا ينفك يزجر كل من يسب الحكومة .  كان يريد أن يقول للجندرمة : "  انتظروا إنكم مخطؤون .. لست أنا من يتآمر على الحكومة , بل هؤلاء الذين ينظرون إلي بسخرية , الشيخ وجوان وأصمان , وذاك وذاك " كان يريد أن ينادي بحياة أتاتورك وبحياة تركيا , لكن شيئاً ما عقد لسانه , صدمة ربما نبهته لشيء . وسيق وهو صامت , والناس يشيعونه وهم مدركون تماماً براءة الحاج مما نسب إليه براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام , لكن لسان حالهم كان يقول : " قد يفيق الحاج على هذه النائبة "

أجل ... كان لا بد أن يصفعه القدر حتى يميز في الغد عدوه من صديقه , ويثوب إلى رشده فلا يغتر بالقبعة الحمراء والأزرار المذهبة والبذلة الأنيقة التي صنعت في بلاد الغرب .

كان لا بد من هذا حتى لا يقبل النعال التي ستدوسه في الغد .

وشق على الناس أن يروا الحاج على هذه الحال ,وهو زعيم الأمس أمضى فيهم عمراً من الوقار والرياسة والسلطان ,يجر الآن بين أيدي الجندرمة وهو كليل طاعن في السن .

وأرادوا أن يفعلوا شيئاً , لكن نفوسهم كانت كما قال عنها الشيخ مصطفى ذات يوم :  " أجدبت ولم يبقَ في زواياها إلا نثرات من التراب " .

وساد لغطٌ بين الناس بينما ارتفع عويل النساء , وهم َّ جومرد أن يلحق بأبيه فيخلصه من الجندرمة لولا أن بعض الرجال منعوه من ذلك وانبروا يهونون عليه الأمر ويذكرونه بأن الحاج ما فتئ يدافع عن رجال الحكم ويثني عليهم . وانقضى الأمر دون أن تحدث مائجة , وسكنت القرية وعاد كل إلى بيته وهم يأملون أن لا يطول غياب الحاج عنهم .

وأسرع أصمان فأمسك بتلابيب جوان وقال وهو يلهث :

ـ آن الأوان لتحقق مرادك يا جوان وتنجد كلستان من تعسها .

فأجابه جوان مستغرباً :

ـ كيف وقد سجن عمها ؟

ـ ما سجن إلا من أجلك .

واستطاع جوان أن يطَّلع على دخيلة أصمان , ثم يتوجس شيئاً أراد أن يبعده عن عقله , لكن ملامح أصمان تأبى إلا أن تفضح سريرته , فلم يتمالك جوان نفسه وقال محتداً :

ـ ألا تكون وراء الأمر يا أصمان ؟

صمت أصمان وأدرك أنه أخطأ إذ أثار الشكوك حول نفسه وكان يود أن يخفي أمره حتى عن جوان , ووقف جوان على جلية الأمر فطفق يلومه ويؤنبه بشدة , وقد لاح الغضب على وجهه فانبرى أصمان يبرر صنيعه ويحدثه عما فعل الحاج بالشيخ مصطفى وما يمكن أن يفعله لاحقاً إذا احتدم الأمر ما بين الأكراد والحكومة . ثم عاد يلح على جوان بأن يسرع في أمره قبل أن يفرج عن الحاج . وتردد جوان كثيراً ولم يكن قد هيأ نفسه للواقعة , فأخبر أصمان أنه سيعرض الأمر على الشيخ مصطفى . وعبثاً حاول أصمان أن يثنيه عن ذلك . وغضب الشيخ مصطفى الغضب الشديد لما علم بفعلة أصمان ,واعتبرها نتاج طيشه وتهوره ,ورماه بقلة التدبير وضيق العقل والصدر , أما أصمان فراح يشرح للشيخ وجهة نظره , وأنه ما فعل ذلك إلا رأفة بكلستان وشفقة على جوان وغيظاً من الحاج وعقاباً له .

ورفع الشيخ مصطفى يده في غضب وقال :

ـ أنا لن أسمح بخطف كلستان .

قال أصمان في هدوء :

ـ لا أحد يخطفها يا شيخ , بل يتزوجها جوان على سنة الله ورسوله , ثم يرحل بها إلى المدينة .

واصطنع الشيخ هدوءاً وقال :

ـ أما علمت يا أصمان أن الفتاة إنما تخطب من ولييها , ووليها الآن في غياهب السجن ؟

ـ أعلم ذلك يا شيخ , لكن ابنه جومرد ينوب عنه في ذلك .

ـ أنخطب الفتاة من ابن عمها ؟

ـ لم لا طالما أنه الآن وليها الوحيد ؟

ـ وهل تظن أن جومرد يتجرأ على القبول وقد سماها أبوه له ؟

ـ إنه يريد أن يتنصل من هذا الزواج بأي شكل كان , وأحسبه سيغامر من أجل ذلك .

ـ إذاً نوكل أمره إليك فتتقصى أمره وتتحسس رأيه فتمهد لنا السبيل .

وانتهى الجدال دون أن يتفوه جوان ببنت شفة , بل كان مطرقاً واجماً يتوجس خيفة مما يخطط له أصمان والشيخ , فإنه على حبه لكلستان لم يفكر البتة أن يتزوجها على هذه الشاكلة , فربما أساء إليها من حيث أراد لها الحسنى , ووجد نفسه مرغماً على البقاء في القرية لينظر كيف تصنع الأقدار به , ومضى أصمان يتقصى أمر جومرد فأخذ يتقرب منه ويتودد إليه محاولاً أن يطلع على سريرته . وقد نال مراده إذ سرعان ما كشف له جومرد عن خبايا نفسه ولواعج قلبه, فعرف أصمان أن الفتى قد وقع في حب ابنة خورشيد اينالو ومحال أن ينجو منه , وأراد أصمان أن يزيد الطين بلة إذ راح يشجع جومرد على خطبتها ويتحدث له عن مكانة خورشيد اينالو ويعبث بقلب جومرد ويقول له : " هي ابنته الوحيدة يا جومرد , أتدري ما معنى ذلك ؟ "

وازداد تعلق جومرد بأصمان إذ وجد فيه مؤنساً وعثر عنده على مطامح قلبه, فكان إذا غاب عنه أصمان راح يبحث عنه حتى إذا ألفاه في الحقل أو في البيت جلس إليه طويلاً وتبادل معه أطراف الحديث , يبحث عن شفاءٍ لجرحه ودواءٍ لسقمه . وتحيَّن أصمان الفرصة ذات مرة فقال له :

ـ قد علمت أن أباك قد خطب لك ابنة عمك .

فاكفهر وجه جومرد واضطرب كالثمل انتهت منه النشوة وأفاق على ألمه , " ويحك يا أصمان , كنت قد نسيت أمرها فأبيت إلا أن تذكرني بها "  , وتمتم قائلاً :

ـ لا أدري كيف أخلص منها .

فرأى أصمان أن الباب يفتح أمامه على مصراعيه , فبادره قائلاً :

ـ ماذا إن تقدم لخطبتها أحد الفتية ؟

ـ أتمنى ذلك , ولكن كيف يخطبها ووالدي غائب ؟

ـ يخطبها منك .... ألست ولي أمرها الآن ؟

وتردد جومرد كثيراً لأن الأمر لم يكن باليسر الذي يتوقعه أصمان , فلا أحد يعرف الحاج إبراهيم مثله , إنه إن فعل شيئاً من هذا القبيل فلن يغفرها له الحاج ما عاش , وأعظم ُالأمور وأشدها على الحاج أن يُستهان به ولا يُقام له اعتبار , ويكون ذلك على أشدّه حينما يكون من يستهين به هو ولده . فأبعد جومرد هذا الهاجس عن عقله , ودفعه الفضول لأن يسأل عن الخاطب :

ـ ومن يكون ذلك الشاب الذي نفذ صبره فهو لا يطيق الانتظار حتى عودة والدي ؟

ـ إنه جوان .... يريد أن يتزوجها على سنة الله ورسوله ويرحل بها إلى " آمد " .

ـ ألا تظنه يريد كلستان كي يظفر بأرضها ؟

ـ لا أظن ذلك وأنا أعلم أنه صادق في مراده , ثم إنه سيرحل عن القرية فلا يعود إليها البتة .

ـ وماذا يمنعه أن يعود في الغد فيطالب بالأرض ؟

ـ يمنعه أمر عظيم ... إنه منشغل بأوضاع البلاد ومهووس بأفكار الشيخ سعيد بيران , ولا أخاله يستبدل الرخيص بالذي هو أغلى .

ودهش جومرد إذ علم أن جوان يخفي عن الجميع انتماءه القومي وميوله إلى مناهضة الحكومة , ثم داهمه هاجس سرعان ما ندت عنه شفتاه :

ـ ألا يكون هو الذي أوشى بأبي ؟

وندم أصمان لما أثاره من حفيظة جومرد وشكوكه فأخذ يمدح جوان ويبعد عنه كل الشبهات ويحدثه عن مروءته ونبالة أخلاقه وحسن معشره وكل ما خفي عن جومرد من جوانب حياة هذا الشاب الذي لم تكن لجومرد مخالطة به , واجتهد في ذلك حتى لمح الرضا في وجه جومرد .

أما جومرد فأخذ يفكر بما عرضه عليه أصمان بشيء من الجد ,فيفرض وقوع الأمر ويقدر العواقب ويتدبر الأعذار أمام والده حتى إذا ألفى نفسه قد أقنع الحاج بحججه وأمن شيئاً من غضبه وانفرجت أساريره , دوت صيحة الحاج كأنها الرعد أرعد القلوب وأجفلها, فتتجمد الدماء في عروقه فينثني عن عزمه , ثم يقع في الحيرة فلا يجد منها مخرجاً . فهذا جوان شاب غريب لا يعرف له أصل , اجتمعت فيه خصال فاضلة كما يقول أصمان , فما الضير أن يتزوج كلستان ويرحل بها فيريحها من الشقاء ويريحه من الكدر , فيصفى الجو له ولا تبقى أمامه سوى ابنة خورشيد اينالو , يخطبها له والده وكرامة عين . لكن السبيل إلى ذلك محفوف بمخاطرة يجزع لها قلبه , فهو لا يدري ماذا تكون ردة فعل الحاج وما يمكن أن يفعل ..

وظل يوماً أو يومين يؤامر نفسه , حتى عزم أخيراً على المخاطرة ,فأخبر أصمان أنه لا يرد خاطباً يتقدم لكلستان . وسُر أصمان بما سمع , فانطلق إلى جوان يخبره بما تمكن من إنجازه , ثم توجها معاً إلى الشيخ مصطفى لترتيب الأمور على شكلها الرسمي  . واستطاع أصمان بطريقته أن يخبر كلستان بما جرى كي تجهز نفسها للزواج والرحيل .

وجاء الشيخ فخطبها من جومرد , ثم عقد قرانها على جوان بحضور شاهدين أحدهما أصمان خليل .

والتقت كلستان بحبيبها في داره خائفة ملتاعة , وعبثاً حاول جوان أن يهدئ من روعها ويجلي عنها الخوف , فخرج من عندها يريد لقاء الشيخ حتى إذا عاد قال لها على عجل :

ـ هيا يا كلستان جهزي نفسك للرحيل .

لكن كلستان كانت جامدة لا تقوى على حراك, فأخذ جوان يلملم حوائج السفر مما خف حمله , ويترقب خلو الطرقات من المارة وانطفاء مصابيح الكاز في الكوى واختفاء أضوائها المنتشرة من النوافذ الصغيرة , وانتظر حتى بلغ الليل هزيعه الأخير , فخرج بزوجته متخفياً تحت جنح الظلام ,حين كانت القرية بأسرها غارقة في نوم عميق .

 ........................................   9   .........................................................

صحيح أن جومرد وافق في النهاية على زواج جوان من كلستان, إلا أن الخوف ظل يمزق أحشاءه , فإن والده لا بد يطلق سراحه في الغد , ولا بد أنه سيقف أمام أبيه حائراً يبحث عن مناص فلا يجد , ويستنجد بكلمات فلا يسعفه لسانه, فيقول له الحاج أول ما يقول : " لقد هان عليك سجني يا جومرد ... ظننتني أخلد في السجن فأخذت مقامي وتكلمت بلساني ؟" .

وأخذ شعور بالذنب يراوده ويسطو على لواعج نفسه ,ويزداد هذا الشعور كلما مضى يوم وأتى آخر , إنه تصرف في أمر لا يملكه . أمر ظل والده طوال هذه السنين يدبر ويخطط له, حتى إذا أشرف على نهايته أتى هو فأفسد على أبيه كل شيء . وقد كان من الحماقة أن صدق أصمان في وصفه لجوان . فكيف به إذا عاد في الغد وطالب بأملاك كلستان . وإن أملاكها أهم ما في الأمر , ثم ... من يكون جوان ؟ ... وما أصله ونسبه ؟  ... لا أحد يعرف عنه شيئاً , فكيف أمنه على عرضه وكيف
ألقى بابنة عمه رخيصة بين يدي غريب ؟

لكن ما ذنبه في هذا إذا كانت هي نفسها أحبته وأرادته زوجاً  ؟

ثم واسى نفسه قائلاً : " لن يبقى أمام أبي إلا أن يخطب لي ابنة خورشيد اينالو ..... وليس بعيداً أن يُبشَّ برحيل كلستان التي كانت كصخرةً جاثمةً على قلبه " .  

لكن كل هواجسه وتخيلاته كانت كرماد فوق صخرة جرداء ,لا تلبث الريح الهوجاء أن تذريه فلا تذر منه شيئاً , وكانت نظرته للأمر من باب اليسر والتوفيق ,كما أنها كانت تمتزج بشيء من طيش الشباب حثه عليه أصمان . ولم تجر الرياح بما يشتهي جومرد , فلم يمض أكثر من شهر حتى أفرج عن الحاج إبراهيم ...فعاد إلى القرية مزهواً ببراءته ,مختالاً بالعروض التي تلقاها من الدَّرك , والتي يعتبرها قد مكنت من سلطانه وقوت من شكيمته ما أضعفتها السنون . وأخذ الناس يتوافدون عليه ويهنئونه بالعودة سالماً , وهو لا يفوت الفرصة, فيقول لكل من يزوره أن الحكومة اعتذرت منه أشد الاعتذار , وتعهدت بالقبض على من وشى به والتنكيل به وسومه أشد العذاب .

ومضى يوم عصيب على جومرد ,وكان يحبذ أن يعرض أمر كلستان على أبيه فيحدث ما يمكن أن يحدث ,وتنجلي هذه السحابة القاتمة , لكن أحداً لم يجد الجرأة على إخباره بالأمر . وفي اليوم التالي  كان الشيخ مصطفى أكثر الناس شجاعة ,إذ مضى إلى الحاج في غزالة الضحى يريد إخباره بالأمر, وقد شعر أنه المسؤول عن هذا الزواج .

ـ هل عرفت سبب اعتقالك يا حاج ؟

ـ اتهموني بتمويل المتمردين .

ـ تقصد الثوار  .

ـ بل أقصد المتمردين على الدولة .... الذين يريدون أن يقلبوا حياتنا جحيماً .... إنهم يظنون أن الدولة ستقف مكتوفة الأيدي , ويجهلون أنهم إنما يريدون مناطحة الجبل .

ـ خفض عليك يا حاج ... فذاك أمر يعنيهم .... ألم تعلم من وشى بك ؟

ـ وعدني الضابط أن يكشفه لي .

ـ لا بد أنه من القرى المجاورة  ....

ـ بل أظنه قابع بين ظهرانينا ,. ثم مال على الشيخ وهمس في أذنه قائلاً : " بتُّ أشك في جوان " .

فعاجله الشيخ قائلاً :

ـ لقد غادر القرية منذ قرابة شهر .

واربد َّوجه الحاج ,واتقد قلبه كرهاً وغيظاً ,وجللت وجهه غاشية من حقد وهو يصيح :

ـ فعل فعلته وهرب .

وتمتم الشيخ مهموماً :

 ـ أجل لقد فعل فعلته وهرب .

فانتبه الحاج فاغراً فاه ,وصعدت الدماء في عروقه فحبست في رأسه فانفجر غيظاً وهو يصيح :

ـ إذاً فأنت تعرف كل شيء .... وليس بعيداً أن تكون شريكه .

رفع الشيخ رأسه وحدق في وجه الحاج مغضباً ,لكنه ظل صامتاً لا يعرف كيف يلقي على الحاج بما هو أعظم . وظل برهة يقلب نظره في أرجاء الغرفة وفي وجه الحاج ,الذي لا يزال محمراً , وفي الأرض الممتدة من خلال النافذة الصغيرة المنخفضة . ثم امتلأ قلبه جرأة فقال :

ـ اسمع يا حاج ... جوان بريء مما تتهمه به . لكني أقصد أمراً آخر فعله بغيابك .

تسلل القلق بين أحشاء الحاج فوقف واجما ً كأنه ينتظر كارثة , ومرَّ في خاطره كلمح البرق ما كان قد نسيه من أمر كلستان , وتذكر أنه لم يرها طوال اليوم الفائت ولم يسأل عنها , وأومأ إلى الشيخ أن يتكلم .

 فقال الشيخ وقد أخفض رأسه :

ـ لقد تزوج بكلستان وغادر القرية .

تجمدت الدماء في عروقه , دارت الدنيا حول رأسه , شعر بوهن في ركبتيه, فانهار على الأرض كحصن هرم ٍحفرت السيول قاعدته , وتبعثر أشتاتاً يتخلى بعضه عن بعضه , ثم احمرت عيونه وانتفخت أوداجه وارتعش كامل جسده وخفق قلبه بعنفٍ فانتصب واقفاً يلهث , وراح يصيح كالمخبول ويحطم كل ما يقع تحت يده , وعبثاً حاول الشيخ أن يهدئه , فتمادى الحاج بالصياح والسباب وهو يرتفع وينخفض , وخرجت الجلبة من الدار وارتدت أصداؤها عن الجدران الطينية, فاجتمع الناس من كل صوب يتساءلون عن الأمر مشدوهين , لكن الحاج ترك داره وخرج هائماً على وجهه  يصيح ويهذي بكلام لا يفهمه أحد .

ومكث الشيخ مدهوشاً لا يدري ماذا يفعل وهو ينكر على الحاج كل هذا الهيجان . وانطلق الحاج صوب الحقل مثقلاً بالهم والسدم , وكان الطريق طويلاً أطول من أيام عمره , وعلى طوله لم تجف مآقيه ولم يهدأ قلبه :

ماذا فعلت يا إبراهيم ؟ .... أية مصيبة ألمت بك ؟ كيف تشرح للناس ما قد حصل ؟ أتخبرهم أن كلستان تزوجت من أخيها ؟ أم تخبرهم كيف اختفى أخوها ؟ ....كيف ستلقى الله ؟... ماذا ستقول لأخيك رشيد ؟ ....

وصل إلى الحقل وراح يبحث عن جومرد ...وجده قائماً يحرث الأرض بثوره , فتوجه إليه مسرعاً , وانتبه جومرد لقدومه فترك المحراث وهو يتفحص وجه أبيه . بادره الحاج بلطمة مدوية على خده الأيمن ,ثم بأخرى على خده الأيسر ,ثم دفعه بقوة فسقط على الأرض ,فأسرع الحاج ووضع رجله على صدره ,فجمد جومرد مستسلماً , وانهال عليه الحاج بأسئلته :

ـ كيف تزوج ذلك الوغد بخطيبتك وابنة عمك ؟

ولم ينتظر جواباً وظل يصيح :

ـ هل خطفها أم تزوجها بعلمك ؟

ولم يجد جومرد جواباً فقد داهمه الحاج على حين غرة , واقتحمه قبل أن يجهز له , فأومأ إلى أبيه أن يرفع رجله عن صدره ,لكن الحاج مكَّن من رجله وضغط بقوة حتى كاد أن يحبس أنفاسه فصاح جومرد :

ـ هي التي رغبت فيه , فكيف أقبل بها . كان صوته متقطعاً مشفوعاً بالتوسل متحشرجاً ينذر بالبكاء .

ومال عليه الحاج هائجاً, وراح يلطم وجهه ويضربه في كل مكان من جسده  ضرباً مبرحاً ,حتى استطاع جومرد أن يفلت من بين يديه ويبتعد عنه ويصيح غاضباً :

ـ لقد تزوجها على سنة الله ورسوله ... لم يخطفها ... ولم يزن بها .... لقد عقد الشيخ قرانهما .

تركه الحاج دون أن يرد عليه وراح يهيم بين أشجار الزيتون لا يدري ماذا يفعل تحت الإصر الذي ينقض ظهره  , رفع رأسه للسماء كان شيء في داخله يدفعه للصمت . وماذا يقول ؟ ففي نظر كل هؤلاء لا يعدو الأمر عن كونه زواجاً تم بغيابه , لا أحد يعرف الحقيقة , ما ضرَّ أن تزوجت كلستان من جوان , ما ضرَّ أن يخلص جومرد منها ليتزوج من ابنة خورشيد اينالو ؟... أجل .... لا أحد يعرف الحقيقة سواك ... أنت المذنب , واشتد صوت ضميره فانفجر باكياً وراح يخبئ نفسه بين أشجار الزيتون , وارتمى بجسده هناك فوق التراب مثقلاً بالهم والتعب , وظل برهة يحملق في السماء البعيدة كأنه يدعو ملك الموت أن يدنو منه , وظل بصره عالقاً في السماء, كأنه يترقب ظهوره .

أما الشيخ مصطفى كالو فقد عاد إلى داره يرافقه أصمان وعدد من رجال القرية في حال يرثى لها , وقد علم الجميع بالحدث فراحوا يختلقون القصص ويتقولون الأقاويل , ولا يخلو أن ينفروا من الحدث برمته ويستغربوا من الشائنة التي أقدم عليها ضيفهم الذي آووه وأحسنوا مثواه , وينكروا على ابنة القرية الحيية التي ما علموا عليها من سوء ولم تك بغياً فعلتها  , ويزدادوا إنكاراً ودهشاً من اشتراك شيخهم في الأمر بشكل مريب , وهم طالما أصغوا إلى عظاته مذعنين , ينهلون منه الأخلاق والدين وما تيسر من العلم ...أهذه هي العقبى ؟

وتحدثت النساء بالأمر, فجعلوا للقصة أذيالاً وخفايا لا تعلمها إلا التي تروي القصة . فمن قائلة تدعي أن الشيخ ليس له علاقة بما حدث وأن كلستان قد هربت مع عشيقها جوان سراً دون عقدٍ أو شهود , وأن الشيخ إنما يريد تخفيف الأمر على الحاج إبراهيم . ومن أخرى تشهد أنها رأت كلستان أكثر من مرة مع جوان في خلوةٍ خلف أشجار الزيتون , لكنها فضلت السكوت تستراً على اليتيمة وإكراماً لأمها المرحومة . وأخرى تستعيذ بالله من شرور هذا الزمن ... ومن بدعات الجيل الجديد .... ومن تدهور الأخلاق .

لكنهن جميعاً كنَّ يشفقن على الحاج إبراهيم , ويتمنين له عوناً من الله على المصيبة التي ابتلي بها .

وفي دار الشيخ مصطفى قطع أصمان جدار الصمت المريع قائلاً :

ـ لقد هوَّل الأمر أكثر مما ينبغي .... وتبين لي الساعة مقدار الظلم الذي يضمره , إنه مثل الوحش فلتت منه الفريسة ,وأشعر براحة بال لأنني أنقذت الفريسة من براثنه .

لم يتكلم الشيخ بل ظل ساهماً شارد الفكر مقطب الجبين , واستطرد أصمان يريد التخفيف عن الشيخ :

ـ وأنت حفظت أمر الفتاة إذ كتبت عقد زواجها بيدك , لماذا لا تخرج النسخة التي بحوزتك على الملأ ليكفوا عن البهتان والفرية  ؟

رفع الشيخ رأسه فبدت عيونه المتلألئة المحمرة كأنها جمر يلتهب , وقال بصوت أجش  :

ـ لقد تصرفنا فيما لا نملك , فألحقنا الأذية بكلستان من حيث أردنا لها الحسنى .

ـ سيكف الناس عن قذفها حالما تخرج لهم نسخة العقد .

ـ لا يفهم الناس هنا معنى الأوراق , إنهم لا يفهمون الزواج إلا بأصوات الطبول والمزامير تخدش آذانهم لأيام وليالي في عرس تجتمع فيه القرية بقضها وقضيضها .أما عقد الزواج وورقة العقد فهي تحصيل حاصل , وشيء يحدث وراء الكواليس ليس لهم به شأن .

ـ إذاً فاذهب بها إلى الحاج إبراهيم والقها بين يديه لتكون برهاناً له على براءة  كلستان .

وأدرك الشيخ أن بقاء نسخة العقد معه لا يفيد في الأمر شيئاً, فقرر أن يودعها الحاج إبراهيم بعد أن تستقر الأمور .

وفي المساء دلف الشيخ إلى مضافة الحاج إبراهيم , فالتقى به هناك عابساً قاطب الجبين شاحب الوجه ضامر العينين ,حاله حال المريض . لم يتكلم الحاج إبراهيم عندما دخل عليه الشيخ ولم يهم باستقباله , بل ظل جامداً متجاهلاً دخوله , فدنا منه الشيخ وقد أخرج ورقة من جيبه وقال :

ـ هذه نسخة العقد يا حاج ... احتفظ بها فإنها البرهان على براءة ابنة أخيك .

لم يمد الحاج يده ليتناولها ,فترنحت الورقة في الهواء وسقطت بين يديه ,فتوجهت عيونه خلسة إليها لتسترق منها شيئاً ,فوقعت على اسم كلستان مقروناً باسم جوان , فكانت كشرارة أشعلت قنبلة, فبدا عليه الاحمرار والارتعاش ,وما لبث أن انتصب واقفاً وهو يصيح :

ـ إنه حرام ... إنه حرام .

واشتدت دهشة الشيخ وتملكه الغضب أيضاً وراح يصيح هو الآخر :

ـ إنه زواج ياحاج ... زواج وليس زنا  .

وصاح الحاج من بين يديه :

ـ إنها جريمة , وأنت مرتكبها .

فأطلق الشيخ ضحكة ساخرة ,وهو يحملق في وجهه المشتعل ,وصاح من جديد :

ـ أية جريمة أيها الحاج ... قلت لك إنه زواج مكتمل الأركان .

ولم يتمالك الحاج نفسه ,فانفجرت عيونه بالدموع وراح يبكي كالطفل في حضن أمه . والشيخ يزداد منه عجباً , ومن بين الدموع والنشيج بدت صورة الحاج إبراهيم حقيقية لا تشوبها شائبة , ورأى الشيخ أمامه نفساً تعتصر وعيوناً تنفجر وقلباً يحرقه الأسى , وهاله الأمر وحيَّره ,وانتظر حتى أفصح الحاج عن دخيلته قائلاً :

ـ إنه زواج باطل يا شيخ ... زواج حرمه الله على عباده ... إنه زواج أخ من أخته .

دفعه الشيخ بقوة حتى كاد يسقط , وراح يوبخه ويرميه بالخرف ويعنفه أشد التعنيف إذ يحاول أن يختلق قصصاًَ جديدة . . لكن الحاج إبراهيم تمالك نفسه وراح يشرح الأمر للشيخ :

ـ إنه أخوها شيار ... أعرفه جيداً ... أخذته مذ كان صغيراً إلى المدينة ,وأودعته عند عبد الرحمن ولم يكن عنده ولد فاتخذه ولداً.

وظلَّ الشيخ مذعوراً لا يصدق ما يسمع , ثم انهار بين يدي الحاج يتوسل إليه أن يصدقه القول , والحاج يبكي متأسياً يطلب المغفرة من الله تارة والكتمان من الشيخ تارة أخرى .

وظل الشيخان يتواسيان و يتشاطران المصيبة ويتلاومان على بعضهما البعض حتى نهض الشيخ وهو يقول :

ـ سأسافر الآن إلى حيث توجه جوان لعلي أصلح شيئاً مما أفسدته يداي .

وقدَّم الحاج له حصانه الأبيض فامتطاه الشيخ ومضى صوب " آمد ".

أما أصمان فقد افتقد الشيخ الذي غاب فجأة إذ كان يرغب أن يودعه الوداع الأخير قبل أن يرحل هو الآخر ليلتحق بالثورة .

............................................. 10....................................................

كانت الحكومة التركية تراقب كل ما يحدث في كردستان بأعين الوحش الواثق من همجيته , وبدلاً من أن تسعى إلى احتواء القوى الكردية والالتقاء معها في إحقاق الحق ودفع المظالم ,لجأت إلى تكثيف الضغوط عليها والتكشير عن أنيابها مغترة بنفسها متباهية بمقدوراتها . فحشدت قواتها العسكرية في مناطق شتى من كردستان , في قارص وماردين ومديات وغيرها , في استعداد تام لكم الأفواه وقطع الأعناق ونسف القرى والمدن . وفي المقابل كانت جمعية استقلال كردستان تحاول توثيق علاقاتها مع رؤساء العشائر الكردية وكسب ودها ودعمها , مستفيدة في ذلك من الاستياء العام الذي كان يسود جميع فئات الشعب الكردي .

وفي مدينة حلب التي كانت شامخة بقلعتها ومآذنها الحجرية القديمة , كانت مجموعة من أفراد القوى الوطنية الكردية تتسلل عبر الأزقة الضيقة المرصفة بأحجار البازلت السوداء , في حذر شديد من أعين الرقباء , ويحيط بهم ظلام حالك اتخذوه حجاباً وسترا. حتى أفضى بهم الزقاق إلى دار منزوية دخلوها فلمحوا في نهاية الدهليز ردهة أنارتها مصابيح الكاز العتيقة فاطمأنت نفوسهم ,وبدت وجوههم المقطبة تلمح فيها الغضب العارم يتلاطم كموج هائج مع أمل ينبثق من أعماق أعماق المستقبل الغائب . واستراح الجميع إلى المكان وهدأوا إلى اللقاء المرتقب تحت هذا السقف الذي يجمع افراداً من جمعية استقلال كردستان , في مؤتمر سياسي سري يضعون فيه الخطط الضرورية لتفجير انتفاضة عامة باتت أمراً ضرورياً في وجه الفاشية التركية ,لإجبارها على العدول عن مواقفها تجاه الشعب الكردي ,وإلزامها بتحقيق وعودها السابقة .

وكان أن تقرر في هذا المؤتمر أن تبدأ الانتفاضة في يوم عيد النوروز من العام 1925 , وأن توضع قوات الثورة تحت إمرة الجنرال إحسان نوري باشا والعقيد خالد بيك جبران .

أما في تركيا فقد كان الشيخ سعيد بيران قد ترك مسكنه في " خنس " وطاف أغلب المدن والقرى والدساكر الكردية, و التقى بمعظم رؤساء العشائر الكبيرة ,يرافقه في تجواله عدد من خيرة رجاله الذين وثق بهم . ولم يجد الشيخ سعيد صعوبة في كسب هذه المناطق والاعتماد عليها مادياً في تأمين متطلبات الثورة , إلا انه وجد صعوبةً كبيرةً في جذب بعض العشائر , حتى أنه عجز تماماً عن إقناعهم والتفاهم معهم , فلجأ إلى مطالبتهم بالوقوف بشكل محايد وعدم عرقلة الثورة إذا بدأت ,رغبةً منه في أمن جانبهم لما علم من إمكانية قيامهم بالغدر ومساندة الحكومة طمعاً بشيء من عطاياها .

وربما كان السبب في عزوف بعض العشائر الكردية عن مساندة الثورة هو انتماؤها الطائفي والعداوت الأزلية فيما بينها , وهيهات أن تدع هذه العشائر خلافاتها المحلية جانباً , وتقف في صفٍ واحدٍ ضد عدوٍ لا يفرق فيهم ملةً ولا نِحلة , بل يقصدهم جميعاً على حدٍ سواء .

وكان هذا الخلاف بين العشائر الكردية داعياً إلى قلق الشيخ سعيد بيران على الدوام  ,فما أخطر تشتت الصفوف وتفرق القلوب وتباعد النوايا والآمال , وظلت هذه المشاعر تنتاب الجميع وتؤرق رجال الشيخ على الدوام , وتولد لديهم شعوراً  عميقاً بالحسرة , مع بصيصٍ ضئيلٍ من الأمل , أن تعود القبائل كلها إلى صف الشيخ .

كل هذه الأحداث كانت تشغل جوان عن عروسه , فتظن هي أنه إنما أهملها بعد فتور أصاب قلبه تجاهها , فتكترب لذلك أشد الكرب , فتبقى مضطربة تتقاذفها مشاعر وهواجس شتى , ولا تجد في هذه الدار الغريبة سوى الجدران المطلية بالكلس , ظهرت فيه بقع نتيجة تقشره , ترتد منها آهاتها وزفراتها فترى نفسها كأنها أقبرت حية . فإنها ما إن استقرت معه في هذا المكان حتى ألفته يخرج مع أول النهار ولا يعود إلا في آخر الهزيع من الليل , منهكاً مغبراً لا تكاد تميز تقاسيم وجهه . وقد يغيب يوماً أو يومين فلا يعود بعدهما إلا وقد امتلأت ثيابه عن آخرها بغبار السفر ,وتلون وجهه بحسب ألوان الطرق التي سلكها , فتستقبله بشغف وحفاوة , وتخلع عنه لباس السفر , وتسرع إلى الموقد فتوقده وتسخن الماء كي تغسل عنه أدرانه وتنزع عنه أثقاله . وتحاول بعدها أن تتبادل معه أطراف الحديث , وتنتهز الفرصة كي تذكره بحالها , وما تعانيه من الوحدة والكآبة والضجر .

وكانت ليلةً وجد فيها جوان أمامه متسعاً من الوقت وفيضاً من الراحة فاطمأن للجلوس إلى زوجه , وراح يستمع إليها وهو يتفرس في معالم وجهها ويحاول أن يغوص في أعماقها , فيشعر بمعاناتها ويقارن بين الحياة التي هربت منها والحياة التي هربت إليها . فسمعها تقول بكثير من الحرقة :

ـ  جوان .... إنني سجينة في بيتك , فهلا أخبرتني متى تفرج عني ؟

فأجابها جوان وهو يدرك مدى صدقها :

ـ لماذا لا تخرجين من البيت وتختلطين بنساء الحي , فذلك يروح عنك بعض الشيء؟

ـ  لا يهمني نساء الحي يا جوان , أحب أن تبقى معي , فإني لا أشعر بالراحة إلا بين ذراعيك .

ـ ما هي إلا أيام ٌ لا تلبث أن تنتهي , وعسى أن يفتح الله علينا فننسى الشقاء للأبد .

ـ إني أتوجس خيفة مما سوف تقدمون عليه , تذكر يا جوان أني تركت قريتي وتركت أهلي واخترت العيش معك , لا أريد أن أفقدك .

وتدحرجت دموعٌ دافئةٌ على خديها فمدَّ جوان ذراعه وضمَّها إلى صدره قائلاً :

ـ أعلم ذلك يا كلستان وأنت في عيني ما حييت .

فرفعت إليه وجهها الذي خضبته الدموع وقالت :

ـ أتعلم أني أجهل كل شيء عنك , إنك لم تخبرني عن نفسك شيئاً حتى الآن .

وانتبه جوان لكلامها وكأن هاجساً ما داهمه , فأطلقها وقال :

ـ أجل ... كنت قد سلوت عن أمرٍ لا بد أن تعرفيه . وسرت قشعريرة في جسدها البض , وظلت صامتة بينما أنشأ جوان يخبرها بلهجة أشبه بالهمس  :

ـ أهم ما في الأمر أني لست جوان .

فغرت كلستان فاها وتوسعت عيونها دهشاً وبدا جسدها يرتعش من هول المفاجأة .

ـ أجل ... أنا لست ابن عبد الرحمن .

استجمعت قواها وتمتمت :

ـ من أنت إذاً ؟

ـ أيَّما كنتُ فأنا زوجك . أم أنك أحببتني فقط لأني ابن عبد الرحمن ؟

واستدركت كلستان الأمر إذْ أنها لم تكن تعرف ابن عبد الرحمن ولا عبد الرحمن , فما يعنيها من الأمر سوى أنها تزوجت من هذا الشاب الذي أنقذها من ظلم القرية .. وبعد شرود قليل عادت فسألت :

ـ ما اسمك إذاً ؟

ـ أنا فرهاد... خاطبيني بهذا الاسم وانسي جوان .

وظلت كلستان في دهشها حتى قال لها زوجها :

ـ سأقصُّ عليك كيف انتحلت هذا الاسم وقدمت إلى قريتكم . وأنشأ يقول لها :

ـ كانت  تجمعني بجوان ـ ابن عبد الرحمن  ـ علاقة تجاوزت الصداقة ودنت من الأخوة , التقيت به في " آمد " حيث كان يسكن لوحده في غرفة مجاورة لدارنا , و كنت الوحيد في داري إذ مات عني أبواي في سن مبكرة , فدعوته للإقامة معي فلبى دعوتي فشاطرته داري وكابدت معه في الحياة , فقد كان ضابطاً في الجيش التركي , أما أنا فكنت ألتقط رزقي من هنا وهناك أيما عمل أجده أستحسنه .

كان يُسرُّ إليَّ بكثيرٍ من الأمور الخطيرة ويطلب مني تنفيذ بعض المهام , كنتُ حينها أخشى على نفسي من رجال الجندرمة , لكني بعدها تمرنت على يديه , فانتزع الخوف من جوفي و أفهمني أن الروح ترخص في سبيل الحرية  . حتى كان ذلك اليوم المشؤوم الذي لا أنساه ما حييت .

اقتربت منه كلستان حتى كادت تلاصق جسده , وشعرت بدفئه وحنانه يفيضان مع كل كلمة تندُّ بها شفتاه , واستمر هو قائلاً :

ـ كُلف جوان بنقل عدد من المعتقلين الأرمن من سجن " آمد " إلى السجن المركزي في أنقرة , فأسرَّ إليَّ أنه ينوي إطلاق سراحهم في الطريق , وأخبرني بخطته , وأوكل إلي قيادة مجموعة من الشبان الكرد المسلحين لمهاجمة الجنود الاتراك .

وحقاً قمنا بمهاجمتهم  , فانضمَّ جوان إلينا وبدأنا العراك مع الجنود الأتراك , وفرَّ الأسرى بعيداً عن الرصاص الطائش , واستطعنا أن نجهز عليهم كلهم . لكن عدداً من رفاقنا قتلوا أيضاً , وأصيب جوان إصابةً بليغة , وأوصاني قبل أن يغمض عينيه أن أذهب إلى " أرضروم " فأبحث عن والديه وأعتني بشؤونهما وألا أخبرهما عن أمره شيئاً , بل أمنيهما بعودته في القريب العاجل .

ودفنت صديقي جوان , واستطعت مع رفاقي أن أبعد الأسرى إلى خارج البلاد , ومن ثم َّ عدت إلى " أرضروم " ورحت أبحث عن عبد الرحمن حتى اهتديت إلى الحي الذي عاش فيه  فأخبرني الناس هناك أنه ترك المدينة وقصد قرية " كسروان "  . فقمت من فوري وتوجهت صوب قريتكم .

فغمغمت كلستان :

ـ لكنك مكثت في القرية على أنك جوان بن عبد الرحمن ؟

ـ أجل .... لأني قد ارتأيت أن أبقى في القرية بعيداً عن " آمد " حتى تنسى قصة الأسرى الأرمن , فادعيت أني ابن عبد الرحمن . و عرفت في قريتكم أن عبد الرحمن قد وافته المنية .

قالت كلستان وقد زالت عنها السحابة التي معَّرت وجهها :

ـ أياً تكن ... جوان أو فرهاد  فأنت الآن زوجي الحبيب الذي لا أريد أن أفارقه لحظة واحدة .

قال زوجها يريد تثبيت فؤادها :

ـ لكلِّ شيءٍ ثمنٌ , وثمن الحرية غالٍ جداً , أنت تتحملين الفراق وغيرك يبذل الدم , وآخرون يبذلون المال ... الكل يدفع الثمن .

قالت وقد زاد كلامه من روعها :

ـ لقد تركت القرية , تركت أهلي , وجيراني كي أبقى معك , ماذا يحصل لي إن تركتني .

ـ حالك حال النسوة في عموم كردستان ، عما قريب لن تجدي زوجاً يضطجع بجوار زوجته .

ـ إذاً فسوف أرافقك حين تندلع الثورة .

ـ محال ٌ ذلك يا كلستان , فلا مكان للنساء  بين صفوف المقاتلين .

ـ ألا ينبغي أن تشارك النساء في رفع الظلم ؟

ـ ليس بحمل السلاح وخوض ميادين القتال ... النساء حمائم السلم , إنها الأحضان التي تنضح الأجيال , إنها الرحمة التي يجدها الطفل البائس . وتعساً للرجولة إذا استكانت  وطمحت في مدد من الأنوثة , عند ذلك لن نفلح أبداً .

قالت كلستان بعد أن يئست من إقناع زوجها :

ـ إنما أقول ذلك لأني لا أريد أن أفارقك .

فقال لها باطمئنان وهو يهمُّ بالقيام :

ـ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً .

كانت النساء في عموم كردستان الأحضان الدافئة في عهد من الرضوخ و الاستكانة  , لكن هذه الأحضان بدأت تدفأ بالدماء المتأججة الغاضبة , وتستعد للصيحة التي يطلقها أبطال الثورة , فتطلق هي كل رجل متشبث بالدفء , خانع إلى الركون وعشق الحياة الذليلة ..... وتقول لهم : " لا أحضان بعد اليوم تدفئكم إذا ما أدفأتكم دماء الكرامة والرجولة " .

وكان الأطفال  في كل بقعة من كردستان يجهلون معاني الفرح الطفولي , ويشعرون بالخوف  الكامن في أحاديث الآباء , والرهبة التي تحيط بمجالسهم , والحرص الشديد من الأمهات اللواتي لا يدعن أطفالهن يلعبون بعيداً .

و كان الكهول يتطلعون ببارقة أمل إلى ما سوف يصنعه أبناؤهم , وما عجزوا هم عن صنعه , فيودعون الحياة ....مطمئنين .

أما الرجال والشباب فقد كان عليهم صنع القدر بأيد ٍ من حديد , حتى ولو كلفهم الأمر أن يفرشوا بأجسادهم الطريق إلى الحرية .

وكانت صيحة الشيخ سعيد بيران تغوص في النفوس حتى أعماقها , وكانت تهز مشاعر الكرد في كل مكان . كانت هيئته وشيخوخته وعمامته من الدوافع القوية التي جعلت نفوس العامة والخاصة تتعلق به  . كان بهيئته المتواضعة واحداً من المكبلين بقيود الطاغية , الذين ناؤوا بأعباء الحياة الثقيلة , وناؤوا بالظلم فوق كل كاهل ٍ مرهق . كان واحداً منهم سرعان ما ألفوه ووثقوا به ووضعوا أرواحهم رخيصة بين يديه .

وكان بشيخوخته مناراً يستمدُّ النور من الماضي السحيق , راغباً في ألا ينطفئ هذا النور في الجيل الجديد .

وكان بعمامته تعبيراً حياً عن روح الإسلام النابض في شرايين كردستان , فكان حرياً به أن يرفض الظلم ويرفض الخنوع والهوان .

" العمامة أولاً في وجه أتاتورك "  ...... " فكر ٌ تمتد جذوره في أعماق الإنسانية وآخر كأنه نبت فوق صفوان أملد " .

" حتى آخر نقطة من الدم " ...... كان أتباعه يصيحون بصوت يجلجل في عنان السماء .

" لكن بالروية أيها الأبطال " ...... كان يضع لهم الخطط وتكتيك القتال ويحذرهم من التهور .

لكن الغضب كان عارماً  , والانتظار كان صعباً , والشوق للثورة كان يفيض في القلوب الخافقة . ولم يعد أحد يحتمل الصبر  .

****

  في منطقة  " كنج " حاول رجال الحكومة إلقاء القبض على نفر من أتباع الشيخ ، لكن هؤلاء لم يستسلموا ولو يتخلوا عن السلاح , وسرعان ما اضطربت الأمور وانقلبت العامة ضد رجال الحكومة .... وتحت إصرار هؤلاء على اعتقال أتباع الشيخ , حدثت صدامات مسلحة عنيفة , كان من نتيجتها مقتل عدد من الجنود وأسر قائدهم .

وفي قرية بيران حدث أمر مماثل حينما اعترضت مجموعة من الجندرمة بعض الرجال المسلحين , وحاولوا إلقاء القبض عليهم , إذ سرعان ما نشب القتال بين الطرفين , وحمي الوطيس وأطلقت بنادق الثورة أولى الطلقات , فقتل معظم رجال الجندرمة وأسر الباقون .

واستمرت هذه الأحداث في مناطق شتى من كردستان , وأدت بمجملها إلى احتقان الأوضاع وتأجج الغضب الشعبي ونفاذ الصبر .

وأطلق الشيخ سعيد صيحته من جديد " الروية أيها الأبطال " ...

الدماء التي صبغت دروب الجندرمة انتزعت الروية من القلوب , والطلقات التي خدشت آذان الأبطال انتزعت بقايا الخوف المعشش في زوايا القلوب . والنصر الصغير الذي رأوه أمامهم ملأ القلوب أنفة وأملاً .... ثم إقداماً .

وفي هذه الظروف الحرجة , كان الشيخ مصطفى كالو يشق طريقه في أزقة " آمد " , باحثاً عن جوان وكلستان , فيسأل كل من يلقاه عنهما فلا يرشده أحد إلى مبتغاه . وكان متعباً من وعثاء السفر , فلم يشأ أن يقف عند حانوت أو متجر إلا ليسأل عن ضالته . فما انفك يجد البحث مذ وطئت قدمه أرض  " آمد "  بقلبٍ تنزَّى ألماً ويدٍ تزلعت من لجام الفرس ووجهٍ مغبر وأسمال ٍ تدلُّ على حال المسافر الذي انقطعت عنه أسباب الراحة والمقام . فلا يمكث في حيٍ إلا ليجدَّ البحث في حيٍ آخر , ولا يبيت ليلةً إلا ليتيقظ لغد ٍ , ولا يهدأ منه القلق إلا بإصرار على هدفه . حتى قاده حصانه ذات مرة إلى حانوتٍ خرِبٍ في حي تتجلى فيه معالم الفقر والخصاصة وشظف العيش , ووجد في الحانوت شيخاً هرماً نالت منه السنون وقطعت وجهه حتى عاد كأرض مشققة عطشى , فدنا منه وألقى عليه التحية فرد عليه الكهل بأحسن منها وأومأ له بالجلوس ففعل .

وبادر الشيخ مصطفى بسؤاله قبل أن يتكلم الكهل :

ـ إني أبحث عن شاب اسمه جوان , هل أجد عندك ما تنفعني به ؟

رفع الكهل بصره وحدق بالشيخ يتفحصه فأثر فيه حال ضيفه ورقَّ له قلبه , فقال بصوت متهدج :

ـ أراك أنهكت نفسك بحثاً عنه , قل لي ما اسم والده ؟

قال الشيخ :

ـ والده عبد الرحمن  ... كان يعمل حذاءً .

أخفض الكهل رأسه متأثراً وقد غشيت وجهه سحابة حزن وقال :

ـ هو نفسه ذلك الضابط الوسيم .

وتهلل وجه الشيخ وانفرجت أساريره وصرخ بلهفة :

ـ أجل أجل ... كان ضابطاً , أين أجده ؟

قال الكهل :

ـ والله ما علمنا من أمره شيئاً مذ خرج في آخر مهمة له , لكن في الحي من يعرف كل شيء عنه . ونهض مثقلاً وأمسك بذراع الشيخ مصطفى ,وقاده إلى الشارع وأخذ يدله على أحد الدور في الكتف الأيسر من الحانوت . وتركه الشيخ وهو لا يعرف كيف يشكره ,وهرع إلى ذلك الدار حتى إذا وقف بالباب طفق يطرقه بإلحاح .

وأتاه من خلف الباب صوتٌ رخيمٌ لامرأة ٍلا بد أن تكون حزينة :

ـ من الطارق ؟

فوجم الشيخ وكفَّ عن الطرق ,وداخله شيء من الرهبة لمجرد سماعه صوت المرأة , وشعر كأنه يعرف هذا الصوت المميز من بين كل الأصوات . وانتبه من شروده على صوت المرأة من جديد فقال متلعثماً :

ـ أنا الشيخ مصطفى جئت أبحث عن شاب اسمه جوان .

ولم يكد يكمل كلامه حتى فتح له الباب عن وجه شاحب حزين تبدو عليه آثار النوم .

ـ كلستان ؟

ـ أهلاً بك يا عماه . لقد وصلت إلى دار جوان .

وعقدت الدهشة لسانه , فهو لم يكن يتوقع أن يجد كلستان في هذه الدار , لما حدثه ذلك الكهل من احتمال أن يعرف أهل هذه الدار شيئاً عن جوان , وعدم معرفته بوجود جوان في الحي . وأشارت إليه بالدخول ,فربط حصانه خارجاً, ودلف الدار فعرف أن جوان غائب عنه . لكنه شعر براحة واطمئنان كبيرين بعد أن أزيح عنه هم ثقيل . وأقعدته كلستان في فناء الدار , وراحت تضيفه بما ينض عنه بيتها المتواضع , وهي لا تكف تسأله عن حاله وعن أهل القرية واحداً واحداً دون أن تستثني عمها الحاج إبراهيم وتذكره بشيء من الانقباض وعن أعباء السفر وكيف اهتدى إلى الحي , وهو يقص عليها كل ما لقيه من نصب وتعب وهم , وكيف تنقل من حي إلى آخر حتى دله ذلك الكهل إلى هذه الدار . و استدرك الشيخ قائلاً  :

ـ وأين جوان ؟

قالت متحسرة :

ـ إنه يخرج بعد صلاة الفجر , ولا يعود إلا في آخر الليل , وهذا حاله مذ وطئنا " آمد " .

فقال لها :

ـ أفي عمل هو؟

ـ لا إنه مشغول بأمور خطيرة , ويقول إن الثورة على وشك أن تبدأ .

واستدركت هي أمراً عاجلت به الشيخ قائلة :

ـ  أتدري يا عماه ... كان جوان يخفي عنا سراً كبيراً .

فانقبض قلب الشيخ واصفر وجهه وهو يهمهم :

ـ وما هو ؟

ـ إنه ليس جوان بن عبد الرحمن .

فانتفض الشيخ واقفاً وقد شعر بقشعريرة جمدت الدماء في عروقه , ثم بلع ريقه و قال :

ـ واكربتاه .... أوتعلمين ذلك ؟

فاندهشت كلستان وفغرت فاها من انقباض الشيخ وقالت :

ـ لماذا الكرب يا عماه ؟ أخالك تعرف السر !

ـ بماذا أخبرك جوان ؟

ـ أخبرني عن حياته , وكيف تخفى باسم آخر , وجاء إلى قريتنا على أنه جوان بن عبد الرحمن .

قال الشيخ وهو يحاول أن يضبط نفسه :

ـ يبدو أنني لا أعرف شيئاً من هذا فهلا أخبرتني به .

كانت لدى كلستان رغبة عارمة في التحدث عن زوجها ,خاصة للشيخ الذي كان من أسباب لقائها به, فطلبت من الشيخ أن يصغي إليها بينما أنشأت هي تقول :

ـ أخبرني أن اسمه فرهاد , وكان صديقاً حميماً لضابط في الجيش التركي اسمه جوان بن عبد الرحمن  , وعاشا معاً في هذه الدار لأن جوان لم يكن يملك داراً , فأهله يسكنون أرضروم , وأخبرني أنه كان حاقداً على الجيش التركي , للفظائع التي ارتكبها في حق الأرمن , ثم إنه كُلف بمهمة نقل بعض الأسرى الأرمن من مكان إلى آخر , فاتفق مع فرهاد لإطلاق سراح الأسرى , لكن ذلك كلفهم الكثير , فما تمكنوا من إطلاق سراحهم إلا بعد قتال عنيف ,كان نتيجته مقتل عدد من الجنود الأتراك وكذلك رفاق فرهاد , كما اخبرني أن جوان استشهد أيضاً برصاص الجنود الأتراك . وفرَّ فرهاد وأتى إلى قريتنا .

كان الشيخ يستمع إلى حديث كلستان ومعاني الإحباط تنجلي عن قلبه لتحل محلها معان أخرى من الغبطة والفرج , وفي نفس الوقت يشعر كأن جبال الهموم قد ذابت من فوق ظهره , وسرح فكره بعيداً إلى حيث يقبع الحاج إبراهيم على مثل الجمر مغتاظاً متألماً بما يعتبره جريرته التي لا تغتفر, وقال في نفسه " أين أنت أيها الحاج لتسمع ما أسمع "

وظل صامتاً برهة , ثم ما لبث أن اغرورقت عيناه بالدمع وهو يزم شفتيه متجلداً يغالب البكاء , وأخذ يسح الدمع ويخفي وجهه بكفيه الغليظتين . ومن بين الدموع كان صوته المتوسل يخرج ندياً رطباً , كأنه نتاج حرب دارت في قلبه لردح من الزمن : " الحمد لله .... الحمد لله .... الآن اطمأن قلبي " .  

ثم كشف وجهه فبدت عيونه الحمراء المرتعشة الصغيرة , يترقرق فيها الدمع كأنه يرقص في عرس .

 وقال بنبرة لم تعلم أهي نبرة فرح أم نبرة ألم :

 ـ  أتعلمين من هو جوان بن عبد الرحمن ؟

ظلت كلستان صامتة مشدوهة لا تعرف كيف تفسر ما أصاب الشيخ , وأشارت برأسها مستفسرة , فقال لها :

ـ إنه أخوك شيار .  

 ظلت واجمة لا تعي ما يقول , وقد توسعت عيناها وانتصب شعر رأسها, وسرت في جسدها قشعريرة جمدت الدماء في عروقها , وسرعان ما حلقت بها الذكريات إلى أيام الطفولة البعيدة , حين غاب عنها ذلك الطفل الوادع الذي كانت تلاعبه وتأتنس به ,ويروح عنها وعن أمها الحزن الذي توشحتا به جراء موت الأب . وتذكرت ذلك اليوم الذي مرض فيه شيار , وكيف مضى به عمها إلى المدينة ثم عاد من دونه . وتذكرت الألم الذي بني على الألم وصار تراثاً يميز عائلة رشيد . وتذكرت أنها كانت قد نسيت أخاها لردح طويل من الزمن , ولامت نفسها على ذلك , وشعرت أنها لو جدَّت البحث عنه , أو طلبت من أحد ما أن يبحث عنه لاهتدت إليه , وسرعان ما شعرت بالذنب , فهبطت من مآقيها دموع ثقيلة أحنت رأسها , فأخفت وجهها بالشال الأسود الذي غطت به رأسها وأنشأت تبكي وتسح الدمع ,حتى إذا هدأت قليلاً سألت الشيخ مصطفى قائلة :

ـ ولكن كيف حدث ذلك ؟

فأنشأ الشيخ يقص عليها كل ما فعله الحاج إبراهيم من أجل إبعاد الطفل عن القرية والتفرد بممتلكات رشيد , وهي تصغي إليه وقلبها يحترق لوعة على بيت رشيد الذي ما بقي من آثاره إلا هي . فلما انتهى الشيخ من سرد القصة قال بصوت هادئ :

ـ ترى لو أنه عاش في " كسروان " أكان يحظى بهذه النهاية النبيلة ؟... إنها أقدار يا ابنتي وإن المرء يقاد أحياناً إلى صنع الخير من حيث لا يدري .

ولبث الشيخ في الدار حتى عاد فرهاد . وكم كانت فرحته كبيرة حينما ألفى الشيخ مصطفى في داره , فراح يقبله ويشم رائحة القرية فيه ويحاول أن يملأ عيونه عن آخرها برؤية الوجه الذي طالما اطمأن إليه في القرية , ولما قعدوا جميعاً في ضوء المصباح الخافت كان فرهاد يحدثهم عن مناقب جوان " شيار " بينما كانت كلستان تسحُّ الدمع الغزير فيتلألأ في ضوء المصباح فيتلألأ له وجهها بمسحة حزنٍ جميلةٍ للغاية .

ومع إشراقه الشمس من الغد , كان الشيخ مصطفى يخب بحصانه طالباً " كسروان " , ليلقي بالنبأ على أسماع الحاج إبراهيم قبل أن تنهار أصرحة الاستقرار , فيا حبذا لو أنه يصل إلى الحاج إبراهيم قبل أن يصل إلى هنالك ظلام ليل قد يطول .

وفي محجَّة الطريق اعترضته جماعةٌ من الجندرمة , فلم يجد فرصة للفرار إذ باغتوه على حين غرة , وطلبوا منه أن يترجل عن الحصان , فلما فعل أخذوا حصانه ثم بادر القائد قائلاً :

ـ إلى أين وجهتك ؟

ـ إلى " كسروان " من قضاء أرضروم .

وما أن نطق الشيخ بالرد حتى انهال عليه الجنود الأتراك ضرباً , وهو يطلب منهم أن يمهلوه كي يشرح لهم الأمر . لكنهم كموا فمه وشدوا وثاقه وقادوه معهم . ومنذ ذلك اليوم غاب أثر الشيخ مصطفى ولم يعرف عنه شيء . وطال انتظار الحاج إبراهيم له.

أما كلستان فإنها لما ودعت الشيخ في الصباح , وحملته سلاماً وأشواقاً إلى قريتها , ظل قلبها يخفق كأنها تحس أن الأيام ستنقبض وتنكمش لتعيدها من جديد إلى " كسروان " . وكأنها حينما شيعت الشيخ أحست بروحها تفارق " آمد " وتيمم صوب القرية , لكنها سرعان ما نسيت كل تلك المشاعر , حينما وجدت زوجها يلبس لباس القتال شائكاً بندقيته محتزماً شريط الطلقات على غير عادته . فعارضته ومانعته باكية , فحضنها وشدها إلى جسمه بقوة حتى كاد أن يصهرها بين ذراعيه , وهي تحوطه بذراعيها وتوسعه لثماً كأنما تريد أن تملأ خياشيمها من أريجه قبل أن يفارقها .

ثم نظر في عيونها المتلألئة وقال بصوت أجش :

ـ إذا لم أعد فارحلي إلى " كسروان " .

فانتفضت باكية , وانسل هو من بين يديها وهرول صوب الباب , وبلمح البصر غاب خلفه , فتبعته تولول , ففتحت الباب وخرجت إلى الزقاق , رأته يبتعد في نهايته , ومن حوله نفرٌ من المارة , فراحت تصيح بقوة : " فرهاد .... فرهاد ... أرجوك عد إلي " . لكن صوتها كان يرتد من الجدران المتقابلة , ويضيع في الجو مع كل شيء يبدأ في الضياع .  وعادت إلى الدار وصفقت الباب بقوة وانهارت على الأرض , وخانها جَلَدها فانفجرت تنشج وتنتحب , وتتطلع من خلال الدموع إلى زوايا الدار الموحشة , فينقبض صدرها وتشعر بنفور شديد منها , فتنهض ملتاعة وتفتح الباب وتخرج إلى الزقاق من جديد , تراه خالياً من المارة , تصيح بصوت واهن متحشرج : " فرهاد .... فرهاد " , يرتد صدى صوتها من نفس الجدران , يخيل لها كأن الموت يكاد ينبثق من خلالها , تصعق لذلك فتهرع إلى الداخل , تمتد يدها الواهنة إلى وجهها , تمسح دمعها الذي رطب وجنتيها وأدفأهما بحرارته , واتجهت من ثم إلى حجرتها وهي تشعر كأن المدينة بأسرها باتت تضيق بها , وأن كل تعس الماضي تكمش في هذه الساعة , وكل أحزانها ونوائبها التي أصابتها منذ طفولتها في بيت عمها اختصرت في دمعة واحدة ثقيلة تهبط من مآقيها . بل تشعر كأن كل أحزان الماضي حلقت بعيداً ,أو كأنها لم تكن . .. أمام هذه اللحظة القاسية من القدر .

أولى الصفعات أحست بوخزها حينما فقدت أباها , وكان قلبها حينذاك رقيقاً غضاً لا ينبض إلا بالبراءة ... فوضعت رأسها على كف أمها ,وأحست بخشونة الكف تداعب بشرتها الرقيقة . وصراخات طفل صغير تملأ وحشة الدنيا وتسحق كآبة الأجيال . وفي ليل مظلم اختفى الطفل . راقبت حينذاك دموع أمها المنهمرة على خدودها المتجعدة , شعرت بالغصة القاسية كادت تحبس أنفاس أمها . كان قلبها يعتصر ألماً , ويتمزق دما ً ..... وكانت الأيام بعد ذلك مظلمة للغاية .

كابوس ثقيل يجثم على صدرها كجبل هرم رقد للأبد , تلاحظ ببراءتها ذبول أمها وانطفاء نجمها رويداً رويدا... حتى كانت ليلة وجدت نفسها وحيدة ,حين ذابت شمعة أمها عن آخرها .... تتذكر دقائق الأمور كأنها دهور عاشتها عن أيامها . وتتذكر فرجة القدر حينما قابلت " فرهاد " , وتنهدت بأسى وهي تتذكر " فرهاد " ..... آه ... أتراه يعود ؟؟؟؟

هل تحلم الآن في هذه اللحظة وهي تقاسي مرارة الفراق بصباح هادئ تداعب سكنته زقزقة عصافير هبت إلى أرزاقها , فتسمع من خلال ذلك الضجيج اللطيف قرعاً ملحاً على باب الدار , تنهض في ثياب النوم مثَّاقلة , تجر أذيالها نحو الباب , وفي نفس الوقت تحاول أن تطرد على عجل بقايا النعاس والغفوة . تفتح الباب , ترى زوجها ثاب إليها بنفس الثياب التي فارقها فيها , يدخل ويغلق الباب خلفه , ثم لا يلبث أن يطوقها بذراعيه المتينتين ,وهي لا تشعر إلا بعودة الروح , وعودة النبض , وانبثاق الدم الحار في العروق التي جفت أو تكاد , تنسى نفسها في حضنه , يتندى وجهها بالدموع, لا تستطيع أن تفوه بكلمة .... غصة الفرحة كغصة الألم , كلتاهما تحبسان الكلام في جوف مضطرب  .

ثم بعد ذلك بقليل ترى نفسها تستمع لباقي الحكاية , يحدثها زوجها عن مغامراته وبطولاته والمآزق التي مرَّ بها ,والتي نجا منها بأعجوبة , تبدأ الحياة من جديد في العهد الجديد ... بعيداً عن حكم أتاتورك وعن صفعات عمها الحاج إبراهيم وعن وخز الشوك في الحقل العتيد  .  " آه كم أشعر بالشوق لابنتي عمي روخاش وعائشة .. ترى هل يمكنني العهد الجديد باللقاء بهما ؟ هل يمكنني من العودة إلى القرية مرفوعة الرأس , فألقى عمي بجرأة وأطالبه بأملاك أبي , وأبرئ نفسي أمام أهل القرية ؟  ثم أبدأ مع زوجي عملاً دؤوباً , فنقلب الأرض الشائكة البور إلى جنة من جنان كردستان , حتى يتحدث بها القاصي والداني ؟؟

وواست نفسها وهي تقول : " لا بد أن يكون ذلك ... حينما يرفع الشيخ البطل راية النصر فوق جبال ديرسم وشرف الدين وآغري ... ويمحق الظلم في كل مكان ... حتى في قرية " كسروان "  .

وكانت الأحداث قد قصمت ظهرها وأنهكت قلبها وعقلها , وتقاذفتها ما بين الآلام والأحلام , حتى لكأنها لا تصدق كل ما يحدث .

فاطمأنت إلى نعاسٍ غشى عيونها , فرغبت في نوم عميق يبعدها عن الواقع , وتمنت ألا تفيق منه أبداً . لكنها ما أن صارت بين النوم و اليقظة حتى هاجمتها أحلام شتى ... رأت كأن سيلاً من الدماء انحدر من أعالي الجبال صوب القرى الآمنة , وانتفض الناس مذعورين يتخبطون لا يدركون وسيلة للنجاة . وأن هذا السيل طغى على المدن والقرى الكردية وجرف معه كل شيء ... الآدميين ومواشيهم  ومحاصيلهم ... وحتى الحجارة التي تحد حقولهم .  وترى هناك على طرف من السيل جماعة قد شمرت عن س واعدها وراحت تصنع المستحيل كي تكبح جماح هذا السيل , وتراهم يكادون يفلحون في مبتغاهم .. .  لكنها لا تدري ماذا حصل بعد ذلك . وراحت ترهف السمع لأنغامٍ شجيةٍ تتردد في عالم المستقبل من خلال أهزوجة ٍعذبة ٍتفهم كلماتها لأنها بالكردية :

هاي فلكي خايني ته جمه لمه واكر .....

ته كوني مه شنافا كونا راكر....

ته مالا مه خراكر....

ته زار وزيجي مه بي خودي هيشت و لأورتا به ريشانكر .....

ته دلي دوستا شكاند  دلي دشمنا بمه شاكر.....

فالاكي يمان ... خايني يمان .... بي باختي يمان ...

يمان  يمان .... لي واي   لي واي  ....

 .................................................

 أيتها الأقدار  لم فعلت بنا ذلك ؟

اقتلعت خيمتنا من بين الخيام

هدمت بيوتنا

يتمت أطفالنا وشردت عائلاتنا وتركتيهم للشقاء

كسرت قلوب الأصدقاء وأبهجت قلوب الأعادي

...................................................

ستقولون امتلأت جبال آغري بالحزن والأسى في يوم ما

تلظت قممها بالنيران وبدلت عمامتها البيضاء بأخرى سوداء

أعلنت الحداد وفرضته على باقي الجبال

آغري امتلأ بالدم ... وصار يبكي دما ً

...................................................

هاهم الجنود الأتراك يهاجمون القرى والمدن . وها هي طائراتهم ترعد نجوم السماء , وها هي دباباتهم تزحف بلا رحمة , تقتلع الأشجار والأرواح . تقتل الرجال والنساء , تيتم الأطفال وتهدم البيوت .

ها هو الثعلب قد نجح في خداعكم وأوقعكم في الشرك .... ماذا ستفعلون ؟؟؟

ماذا ستفعلون ؟؟؟

........................................................................

سننادي كل الشرفاء , لا بد أن يسمعوا صرخاتنا , لا بد أن ينتبهوا لأنين أطفالنا . لا بد أن تهتز في أعماقهم نخوة الرجولة , لا بد أن ينفضوا الكسل عن أنفسهم , لا بد أن يخلعوا عن أنفسهم حياة النعيم وينسوا دفء أحضان النساء , لا بد أن يسمع كل من له شرف هذا

.....................................................................

انتهت الأهزوجة , وساد سكون مخيف , ثم طغى ظلام دامس , رأت من خلاله بقعة ضوء خافتة بعيدة , لكنها أحست أصداءً تأتي منها , أرهفت سمعها وحدجت بطرفها , فرأت كأنه خيال " فرهاد " يناديها من بعد  :

"  إذا لم أعد فارحلي إلى " كسروان " .....

فهبت من نومها مرعوبةً ترتعد أوصالها , وازداد توترها وقد لجأت إلى النوم تريد الهدوء . حاولت أن تهدئ من روعها , فانتصبت واقفة وهرعت إلى الباب ففتحته وتطلعت من خلاله إلى الزقاق علّها تجد من يؤنسها , فلما لم تجد أحداً عادت إلى حجرتها تزرعها جيئة وذهاباً , وتذكرت آخر ما رأته في منامها فانقبض صدرها وسحَّ دمعها فانفجرت باكية ....

 وهي تشعر كأن الدنيا بأسرها كانت تصيح :

 " إذا لم أعد فارحلي إلى " كسروان  "         .  

                                                                                                 " انتهت "  20/5/2007

الكاتب عماد كوسا / قرية الزيارة / عفرين

العودة إلى الصفحة السابقة