الدحاليل
عيد 2011
طرقتُ الباب ففُتح عن وجه زوجتي الشاحب تحاول أن تصطنع ابتسامةً فلا تسعفها التجاعيد و الارتخاء و الذبول المطبوع على وجهها , تملكتها دهشةٌ و ارتفع الدم حتى أذنيها و امتلأت بالغيظ, لكنها لم تتكلم فبادرتها قائلاً :
- لماذا على المأساة أن تتكرر في العام مرتين؟
قالت يائسة : وأين خفا حنين ؟
قلت : حتى خفا حنين صارت لهما قيمة في زمننا .
في العيد الماضي لم أترك باباً إلا و طرقته أريد أن أستدين شيئاً من النقود تعينني على تكاليف العيد أسددها أقساطا, قسطاً تلو الآخر , فأبى أكثر الناس أن يقرضونني و كلٌ له أسبابه و دواعيه , فهذا يظنني كاذباً محتالاً و ذاك يخشى أن أماطله و آخر يضن بالنقود , و أكثر الناس لا يسري في عروقهم أي إحساس بالفقر و الحاجة , و فاقد الشيء لا يعطيه و لا يصدق أن في الدنيا من يحتاج إلى لقمة .
قلت لزوجتي : هذه الدنيا كلها للأغنياء و المترفين و حتى العيد صار لهم بعد أن فرَّغوه من مضمونه و عرَّوه من قيمه و أخرجوه بحلةٍ أخرى تتناسب مع أهوائهم .
جلستُ فنهض كل أطفالي و تراكضوا يريدون أن يتفاجؤوا بما جلبته لهم .
و حقاً كانت المفاجاة و أي مفاجأة .
طأطأ أحدهم رأسه و عاد الهوينى إلى وكره , و جلس الآخر منهاراً لا يصدق , و أنشأ الصغير يبكي بكاءً حاداً كأن قطعة من جسمه قد جُزت .
في الصباح سوف يخرج أطفال المترفين منتعشين بعبق العيد انتعاش الورود العطشى بحبات الندى مزهوين بالأثواب الجديدة مندفعين إلى الفرح و السرور لا تكاد الأرض تحس بخطاهم , و معظم الآباء يرون العيد من خلال عيون أولادهم و يفرحون به من خلال فرحتهم , و كذلك أنا
عندما أحبس أولادي في بيتي و أمنعهم من مخالطة أقرانهم و لداتهم و أقنعهم أن هذه المخالطة ضرب من الاختلاط الحلرم منهيٌّ عنه في الشرع و القانون و العرف و الإحساس و اللا إحساس .
عادت زوجتي لتسأل : إنك لم تعد حتى بخفي حنين , و لا بد من وجود الضيافة , إن لم يكن من اجل الأولاد فمن أجل أن نحفظ ماء وجهنا أمام الضيوف .
ضاق صدري بهذه العادات السيئة التي غزتنا على حين غفلة واستوطنتنا و استعبدتنا , و الأخطر من هذا كله أننا لا نفكر في الثورة عليها و التحرر منها , بل نرتاح بها جاثمة على صدورنا و قلوبنا و رؤوسنا و ووجوهنا و أعناقنا راغماً عن أنف كما تجثم جبال هيمالايا على جسد الهند و السند , لا أدري متى تهتز الأرض فلا تذرها إلا قاعاً صفصفا.
رفعت زوجتي رأسها فجأة و عيونها تبرق بالأمل و قالت : وجدتها
- الحمدالله فرجت
- الحاج عبد المقصود ... هل ذهبت إليه و سألته ؟
- لم أطف القرية كلها كالسائل بل توجهت إلى عدد من الأقرباء و الأغنياء.
- أظن أن الحاج عبد المقصود يفك ضيقنا , هيا امض إليه يا رجل .
و بينما كنت في الطريق إلى بيت الحاج عبد المقصود راودتني صور تذكارية عديدة عن ملامح الرجل و تصرفاته و عاداته و محاسنه و مثالبه و مواقفه و تحركاته , و نظارته الغليظة و شاربه المحفوف و لحيته الخفيفة و سبحته التي لا تفارق أنامله و أنامله التي لا تفارق أبواب المساجد , و مرَّت في مخيلتي صور أبنائه فشعرت بشيء من المقت , لكنني ركزت في النهاية على أمر واحد و هو أن الحاج عبد المقصود هو من أعيان القرية و أشرافها و تكاد القرية تقوم بقضها و قضيضها بإشارة من سبابته وتقعد , صدقت زوجتي حين قالت : (وجدتها)
و طرقت باب الرجل فإذا بالفضيلة و الرذينة و الكبرياء و العفة و الوقار و البهاء و الأنفة و السماحة و الغبطة و البشاشة و الحبور و الوداعة و السكينة و الرحمة و الهيبة و الغموض يفتحون الباب .
- السلام عليكم أجمعين .
- و عليك السلام .... و صمت .
- أطال الله عمرك يا سيدي و مولاي و سندي و ....
نسيت أن أسلم على من يقف خلف الحاج عبد المقصود , شعرت بالإحراج الشديد لعدم انتباهي و ارتباكي و قلة لباقتي و ذلك لأني لا أتقن (الاتيكيت) .
استطعت أن أعرف ماذا قال الحاج عبد المقصود في نفسه , فاحمر وجهي و أردت العودة لكني كنت أغرق و انطلق لسان الحاجة الذي في فمي يقول : أيها الحاج أنت تعلم ما بي من خصاصة و فاقة شديدين و قد داهمنا العيد على حين غرة و ليس لي يدان عليه فجئت أمد يدي طالباً العون ممن يمد يده للعون .
قاطعني الحاج غاضباً : إذا سألت فاسأل الله و إذا استعنت فاستعن بالله , و " لا يكلف الله نفسا ً إلا وسعها " فأنت و أمثالك لا يكلفكم أحد بتكاليف العيد و لا ينبغي أن يزوركم أحد و يكون عالة عليكم بل أنتم من ينبغي أن تطوفوا على بيوت الآخرين و تنالوا من الضيافة ما تشاؤون , و أولادُكم .
حاولت أن أجمع أشتات فكري لأقول له : و هل الناس يتزاورن في العيد بغرض الضيافة فحسب , هل أصبحت بيوت الفقراء مزابل منفرة ؟
قال يتنحنح : أقصد أن بيوتنا مفتوحة لكم في العيد و في غير العيد , و استاذن مغلقاً الباب في وجهي فكرهت أن انصرف دون أن ألقي التحية التي هي فرض ولا شك .
- السلام عليكم أجمعين .
في هذه المرة تلقيت رد السلام ممن كان يقف خلف الحاج . لقد كان شيطانه الذي ألبسه ثوب الرجل الفاضل الورع التقي العفيف الوقور البهي السمح الحبور البشوش الوادع المهاب .
- و عليك السلام .
- عليك و عليك و عليك ... و لا زلت أرددها حتى استقبلتني زوجتي مرة أخرى و تكرر نفس
الموقف .
قبل كل عيد ترى في عيون ملايين الأطفال دموعاً صنعها تجار الدم و المال و الروح و تجار الإنسانية و الدين و السلطة تذرف بلا هوادة على الرمال و التراب و الصخور و مياه الأنهار و البحيرات و البحار القطبية و اللا قطبية تختلط بالأمطار الاستوائية و اللا استوائية لتتحدث عنها الصحف المحلية و الأجنبية كخبر عابر يعترض موجة الإعلانات الموسمية .
لم أحتمل نظرات أطفالي فهرعت إلى فراشي و جرُّوا هم أنفسهم إلى فرشهم واحداً تلو الآخر بعد أن امتلأت نفوسهم بالخيبة و التعاسة و لكم وددت أن يخطفني ملك الموت في هذه الليلة فاخلص من هم العيد في الغد .
أعياني التفكير فجذبتني براثن النوم و وضعتني على أجنحة طائر الأحلام الذي أخذ يجول بي في عالم الغد :
رأيتني مع جماعة من الأغنياء نستمع لنشرة الأخبار فسمعنا المذيع يقول : (أيها السادة نلفت انتباهكم إلى أن يوم العيد قد أرجئ إلى إشعار آخر و ذلك بسبب سوء الأحوال المادية للمواطنين) و هللتُ للخبر وحيداً بينما استنكر كل الناس من حولي و انهالوا علي ضربا كوني كنت مندساً بينهم .
ثم رأيت نفسي أشارك في استفتاء جماهيري حر : أجب بنعم أو لا (هل تريد أن يبقى العيد في الغد)
و كان رأي الأكثرية هو (لا) و فوجئنا بالنتيجة على غرار ذلك و صرخنا بصوت ضعيف ( هذا غش ... هذا تزوير ) و لم نستطع تغيير النتيجة.
و رأيتني في حلم آخر أجمع الناس من حولي و أدعوهم لرفض العيد فصدني أحد المشايخ قائلا : يا ولدي العيد قيمة إسلامية لا يمكن تجاوزها و رفضها , يأتي العيد بعد شهر الصيام كجائزة من الله وسماح بالفطر بعد الإمساك , و يأتي في الحج أضحيةً تقبَّلها الله تعالى بعد يوم عرفة .
صرختُ و صرخ من معي :
- من يذكر ذلك يا شيخ؟ لقد صار العيد يوماً للأغنياء يظهرون فيه غناهم و ترفهم أمام تعاستنا
و فاقتنا و قلة حيلتنا . و سمعت الحاج عبد المقصود يصيح هاتفاً : ( أنتم دحاليل العيد . سنلعب بكم في هذا الميدان كما يلعب أولادنا بالدحاليل ). و انطلقت الحشود تهتف بصوت واحد (العيد للفقراء ... العيد للفقراء )
و وقف الأغنياء قبالتنا و احتدم بيننا صراع دام , وحاولنا أن نحل المشكلة سلمياً إلا أن أحداً لم يتنازل عن رأيه , و تطور الصراع و سُمع دوي إطلاق النار و شعرتُ بوخز مؤلم في خاصرتي ثم في صدري , مددت يدي فإذا بها تبتل بالدم فصرخت بذعر : ( إني أموت ... أقتل ... أستشهد )
و فتحت عيوني لأرى زوجتي و أولادي واقفين فوق رأسي مشدوهين , ناولتني زوجتي كوب الماء فارتشفت منه رشفة , و أومأت هي للأولاد فعادوا إلى فرشهم . و ما أن وضعت الكأس من يدي حتى انطلق صوت المؤذن يؤذن لصلاة الفجر , فنهضت أتوضأ فإذا بالمؤذن يقرأ الفاتحة ثم يقول :
( كل نفس ذائقة الموت ) , أعرت انتباهي الشديد كي أعلم ما الأمر فأردف المؤذن :
انتقل إلى رحمة اله تعالى الحاج عبد المقصود ... إنا لله و إنا إليه راجعون .... الفاتحة ...
تملكتني غبطة شديدة .. لا والله ليس لموت الرجل .
مضيت إلى صلاة الفجر و أعقبتُها بدعاء طويل و توسل إلى الله تعالى أن يتغمد الحاج برحمته و يسكنه فسيح جنانه , فالرجل له فضل عليَّ لا أنساه , وإن كان صدَّني البارحة . و إن كنتُ في نظره واحداً من الدحاليل فقد أسدى إلي معروفاً , و أنقذني من ورطة و فرَّج عني كربةً من كربات الدنيا , فرَّج الله عنه كربة من كربات الآخرة .
سيُقضى يوم العيد لا محالة في تشييع جثمانه إلى مثواه الأخير و دفنه و تعزية ذويه و قراءة القرآن على روحه الطاهرة .
و لن يكون في القرية عيدٌ بل سيكون فيها مأتم .
30/8/2011